السبت 27 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
المفارقة والسخرية في المجموعة القصصية "رياح في قصاصة عنيدة" لـ محمد الشميري - انتصار السري
الساعة 17:51 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 


 "رياح في قصاصة عنيدة" هي أول إصدار للدكتور محمد الشميري، من يقرأ تصنيف (قصاصات قصيرة جدا) قد يظن أنها قصص القصيرة جدا فقط بينما تحوي المجموعة على القصة القصيرة والومضة والخاطرة غير أن أغلب نصوص المجموعة تنتمي إلى فن القصة القصيرة جدا.
عند قراءة قصص المجموعة تدهشنا المفارقة التي هي من اهم عناصر القص القصير جدا، كما نلحظ أن عنصرا المفارقة والسخرية مرتبطان ويطغيان على أغلب قصص المجموعة، وأنا في قراتي هذه سوف اتطرق إلى هذا الجانب، وهذه ليست قراءة نقدية بمعنى النقد الحديث بل هي قراءة انطباعية من قارئة. 
من اهم سمات القصة القصيرة جدا التكثيف والاختزال والترميز والمفارقة والقفلة المدهشة واللغة الشعرية، وكما قال الدكتور جابر عصفور. أن القصة القصيرة جدا هي فن الصعب لا يبرع فيه إلا الأكفاء من الكتّاب القادرين على اقتناص اللحظات العابرة قبل انزلاقها على أسطح الذاكرة، وتثبيتها للتأمل... 
وهي وحدها القادرة على إقناع قارئها بأنها قصة قصيرة جدا، بمجرّد أن ينتهي من قرأتها فتجعله يقول : الله، هنا تكون القصة حققت غايتها بشد وادهاش القارئ لها.
وفي دراسة لـ الكاتب المغربي محمد يوب يعرف المفارقة "بأنها فن قول الشيء دون قوله في الحقيقة".
ويأتي عنصر السخرية متزامن مع عنصر المفارقة في أغلب القصص القصيرة جدا، فقد تقال جملة أو كلمة بغرض المدح ولكنها تأتي عكس ذلك بقصد السخرية وتأتي المفارقة محبوكة وموظفة في النص، فلا تكون خالية من المفاجأة أو الإدهاش مما يفقد قيمتها الدلالية والفنية وينطفئ الوهج الفني للنص، أي أنها تتمثّل في أوجه التّناقض والتّضاد.
عند قراءة نص "سياسة" ص21:
سياسة
بعد مباحثاتٍ جادّة وليالي ذات سريرين؛
قرّرتْ أن تُبرزَ له حنْكتها السياسية...
وافقتْ على كل علاقاته الخارجية على أن يكون تمثيلا غير رسمي..
في حين أسندتْ لنفسها حقيبة الداخلية!
 نجد المرأة التي لا تقبل أن تكون لها شريكة في حياة رجلها، تخضع لرغبته في نهاية النص، فالزوج هنا هجر زوجته، وبعد ما دارت مباحثات وليالي ذات سريرين و(السريرين) هنا رمز لهجر الزوج لزوجته، تلك الزوجة التي تخاف هجر زوجها لها تبرز له حنكتها السياسية وتقبل بعلاقاته الخارجية لكن تحتفظ لنفسها بالحقيبة الداخلية، فأغلب تلك العلاقات عابرة تكون خارج المنزل، وتظل هي الزوجة التي تتربع على عرش بيتها في الداخل، في هذا النص نجد مفارقة وسخرية مضادة بين القبول والرفض ما بين رأي الزوجة التي رفضت علاقات زوجها في البداية وكيف تبدل بعد أن هجرها في السرير إلى قبولها بتلك العلاقات الخارجية.
  وفي نص " نغمة حب" ص82:
نغمة حب
يغريها طوفانُ أسئلته وقلقُه الدائم عليها، يُغريها أكثر حين يغلقُ هاتفه في وجه صمتِها المُعاتب.
في اللقاء الأول لم يكنْ مندفعاً، ولم تكن متلهّفةً لاستقبال سؤاله
نظر إليها طويلاً...
فتّشت جيوبَ تأمُّلهِ العميق
اقتربَ منها أكثر..
حاول أن يمسكَ يدها
نغمةُ الهاتف كانت كفيلةً بوضع حدٍّ لمصير التصاقه بها..
(بحبّك يا حمار..!)
 نجد مفارقة وسخرية بين عنوان النص وقفلة النص التي يقول السارد فيها ( بحبك يا حمار..!)  وتلك القفلة هي اسم لـ أغنية اشتهرت في وقت ظهورها هنا وظف السارد تلك الجملة لتكون نهاية لـ أحداث دارت في أثناء الالقاء الأول لـ بطل النص بحبيبته وخوفه من صدها له عند تقربه منها ومحاولته أن يمسك يدها كانت نغمة هاتفها حاسمة للموقف، وكأنها تقول له: تقدم ولا تخاف يا حمار.   
السخرية والمفارقة هنا يجب أن تكونا متوافقتان، ففي لحظة ما تظهر لنا عكس حقيقتها، حيث نرى العبث في الجد، والزيف في الحقيقة، ولهذا تتّصل المفارقة في كثير من صورها بالتّهكم والسخرية والدهشة. 
في نص " قبلة فرنسية" ص124:
قبلة فرنسية
على عجل، ارتدى ما تبقى من ثيابه.
بصمت متعثر، وحذر قصير، كانت تشير بسبابتها نحو السرير...
في الشارع المؤدي إلى المطعم تحسس فمه
......
لقد نسيتُ طقم أسناني.
 وهذا النص من أجمل نصوص المجموعة، بطل النص رجل كبير في السن تدعوه حبيبتها أو زوجته إلى السرير قبل خروجه، وفي عجلته ينسى أخذ طقم أسنانه معه إلى المطعم، هنا العنوان قبلة فرنسية وبسببها يضع طقم أسنانه على الطاولة بجوار السرير، فالسخرية هنا تصنع النصوص الجميلة، فهي بقدر ما تلازم النصوص الجدية بقدر ما تعري الواقع في جنوحه، فتجعل الرجل الوقور ينسى طقم أسنانه بسبب قبلة فرنسية.
نص " موعظة حسنة" ص138:
موعظة حسنة
لن يسكتَ ميكرفون الخطيب حتى لو انقطعت الكهرباء!
هكذا قال لها وهي تحاول مساك فمه ليخفض أنفاسه
المتسارعة، حتى لا ينكشف أمرهما...
سألها زوجها حين عاد:
كيف كانت خطبتي اليوم؟
ما زلتُ متأثرة حتى اللحظة وجسمي يرتعش!
 الرجل الخطيب هو الزوج وهو من يعظ الناس بالموعظة الحسنة والقيم الأخلاقية في خطبة الجمعة، لكن زوجته هي أول من ينتهك تلك القيم الأخلاقية وتمارس الرذيلة في بيته، فعند سؤال الزوج  لزوجته عن رأيها في خطبته لذلك اليوم ردت بأنها ما زلت ترتعش من التأثر، فكلمة التأثر في النص لم يكن بتأثير الخطبة بل بتأثير شيء آخر.
المفارقة في النص السابق كانت في ما يدعوا إليه الزوج وما تفعله زوجته في غيابه، فهي مفارقة في أحداث النص، وكان الادهاش في قفلة النص، ولأن القصة القصيرة جدا تتميز بإيقاع سريع في أحداثها، فإن الاعتماد على النهاية المفاجئة هو الذي يجمع هذه الأحداث، وينقل فكرة القصة إلى المتلقي بقوة، فتخلق عوالم جذابة للقارئ، صادمة له أحيانا، ومثيرة لدهشته وإعجابه في ذات الحظة.
كما أن القصة القصيرة جدا تطرح موضوع اللغة التي يستخدمها السارد في السرد، ويعني الاقتصاد في اللغة إلى أقصى درجة ممكنة، وذلك بوضع المعنى في أقلّ عدد ممكن من الكلمات، ففي نص "شاعر" ص17:
شاعر
كلما أثّث بيتاً، شَعرَ بالنسمة تداعب مخيلته..
أكمل ديوانه.. تكاثر الموالعة.. احتاجوا مزيداً من المتافل! 
 كانت لغة السرد هي لغة السارد العامية مثل مفردة "الموالعة"، ومفردة "المتافل"، هنا جاء المعنى وبقوة في أقل عدد من الكلمات وانتهى النص نهاية ساخرة، فكلما اكتملت بيوت ديوانه الشعري كثر عدد "الموالعة" وزادت عدد "المتافل". فالقصة الناجحة هي التي تنتهي نهاية غير نمطية.
المجموعة غنية بنصوصها وموضوعاتها وهي جديرة بأكثر من قراءة متخصصة من نقاد متخصصون في فن القصة القصيرة جدا.. ابارك لكاتبها محمد الشميري بـ إصداره "رياح في قصاصة عنيدة" الصادرة عن متجر كافي بوك الطبعة الأولى صنعاء.

 

منقولة من مجلة أرواق مبعثرة...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24