الجمعة 26 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
قصة قصيرة
شظايا اللحظة - سيرين حسن
الساعة 14:24 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


 

لوهلة توقف كل شيء, تنبهت لشيء واحد وسط كل الضجيج الذي حولها, لقد توقف قلبها عن الخفقان, الدم كان راكداً في أوردتها, حتى دموعها التي كانت تنهمر منذ لحظات توقفت في مكانها على وجنتيها وكأنها تجمدت.
كل شيء توقف, حتى تنفسها, حاولت التأكد من أن رئتيها تعمل, لكن لا شيء, وكأنما حُبست داخل كبسولة مفرغة من الهواء, ومن الحياة.
منذ زمن لا تعرفه توقف كل شيء, عندما كانت تقف في وسط الشارع تبكي بشدة ,هي تتمنى الموت, والفناء كي يخف الحزن الذي يلتهم روحها, انهمر المطر, فألحت بالدعاء بالموت, عندما تذكرت أن وقت المطر هو وقت استجابة, أرعدت السماء, وشق ظلام عباءتها برق أضاء كل شيء.
أصبح كل شيء حولها أبيض اللون, ضوء قوي أعمى عينيها عن رؤية ما حولها, الأسواق التجارية اختفت, المارة, السيارات وكل شيء أختفى لوقت لم تستطع تقديره ثم عادت الرؤية واضحة, لكن كل شيء عاد طبيعياً إلا هي.
سارت إلى المنزل, شعرت بخفة كبيرة في جسدها وكأنها لا تسير بل تطير, مدت يدها إلى باب المنزل لتفتحه, لم تشعر ببرودة المقبض المعدني كما تفعل عادة وقت نزول المطر, دخلت غرفتها لتغير ثيابها, استغربت ثيابها الجافة رغم سيرها تحت المطر لساعة أو أكثر.
لبست ملابس مريحة وهي تشعر بشيء فارغ في صدرها, بفجوة عملاقة, خرجت لأعداد العشاء, كانت هذه ليلتها الأولى بعد أن خسرت كل ما حاربته لأجله طوال عمرها, كل ما جمعته من مال لعلاج والدتها المريضة كي تنقذ حياتها بالعملية, طار في غمضة عين حينما سرقه سائق السيارة.
والدتها تحتاج عملية طارئة لإنقاذ حياتها, وعمل الشرطة طويل وقد لا تصل لنتيجة, كانت مترددة في البلاغ لكنها فعلت أو ربما أحد المارة فعل, لا تتذكر بوضوح, كأنما أمطار اليوم غسلت ذاكرتها.
شعور العجز أكبر منها بكثير, لم تستطع أن تقول لوالدتها ما جرى, لقد وعدتها بأن تكون العملية في نهاية الأسبوع, وعدتها بان أوجاعها ستزول, ولم تخبرها عن وجع مشاعرها الذي لن يزول إن عرفت ما حدث, لكنها لن تقف عاجزة وتتفرج على والدتها تتألم وترحل عن الدنيا هذا ما لا تستطيع احتماله.
والدتها هي صديقتها, وكل ما تعرفه عن أسرتها التي سافرت إلى دول أخرى, كانت والدتها منسية في ظلمة الفقر و العوز, لذا أخذت على عاتقها أن تكون السند, الصديقة, والأهل لوالدتها, وألا تدعها تحتاج لشيء, كانت في اعماقها طفلة صغيرة تخشى الوحدة, تحاول بكل طريقة ألا تشعر بالوحدة, حتى في العمل كانت تخشى البقاء وحدها وتتحرك دوماً باتجاه زميلاتها في الأقسام الأخرى, كان مسخ الوحدة يرعبها ويزورها في كوابيسها كل يوم.
أكملت دراستها في المدرسة بصعوبة, ثم جاهدت لتعمل في محلات تجارية كبائعة, أو في صالون تجميل, أو حيثما تستطيع لتعيش مع والدتها دون اللجوء لأحد.
بعد أن أصاب والدتها السرطان خارت قواها تماماً. مبلغ العملية أكبر مما تستطيع جمعه, عملت ليلاً ونهاراً في كل مكان, أخذت مبالغ كسلفة من كل من عملت عندهم, كانت امانتها سبباً في موافقتهم, لكن المبلغ لم يكتمل, وصحة والدتها تسوء يوماً تلو الآخر.
كان الخيار الوحيد هو الموافقة على عرض المدير في المحل, ترددت كثيراً, شعرت بالخزي كلما نظرت والدتها لعينيها وكأنها تقرأ نواياها, لم تملك خياراً آخر, كان عليها بيع نفسها له لتنقذ والدتها.
خرجت من منزله باكية والمبلغ في حقيبتها, صعدت إلى السيارة, انتبه السائق للحقيبة؛ فتظاهر بأنه يتعرض لنوبة قلبية, ترجلت عن السيارة؛ لتنادي صديقه الطبيب الذي يسكن في عمارة توقف أمامها, زاد صراخه وتوسله, فارتبكت وتركت الحقيبة في السيارة, وفي ثوانٍ كانت السيارة قد اختفت.
سارت في الشارع باكية حتى عادت إلى المنزل, كان صوت المطر في أذنيها وهي تعيد مشاهد ما جرى في هذا اليوم.
صوت والدتها وهي تناديها قطع ذكرياتها.
خرجت لتجيبها
- نعم أمي, هل أنتِ جائعة؟ هل أعد العشاء؟
- نعم يا ابنتي, وابحثي عن الدواء المسكن؛ لأني لم أجد العلبة.
التفتت بسمة حيث كانت والدتها تنظر بعيداً عنها, تملكتها الدهشة والفزع وهي ترى نفسها تقف هناك, نظرت إلى يديها, تبدوان شاحبتين, رفعت بصرها لترى شبيهتها تدخل المطبخ لتعد العشاء, وتعود والدتها لتجلس في كرسيها أمام التلفاز, ذهبت إليها, جلست بجوارها لكن والدتها تجاهلتها.
- أمي. قالتها بتردد.
- لكن والدتها لم تلتفت إليها.
مدت يدها ووضعتها على كتف والدتها وهي تناديها, لكن والدتها لم تُجب.
قامت إلى المطبخ, لترى شبيهتها تعد العشاء, وتحدث نفسها: كيف سوف أجمع مال العملية؟
صرخت في شبيهتها: من أنتِ؟ لما أنتِ هنا؟
لكن لم ترد عليها, بل تجاوزتها وفي يدها صحن العشاء.
وقفت أمام والدتها وشبيهتها تصرخ: أمي هذه أنا بسمة.
ذهبت لتهز والدتها, وتسحب شبيهتها لتقوم من الكرسي, لكن كأن قواها لا وجود لها, وكأن جسدها لا وجود له.
هرعت إلى الغرفة لتنظر في المرآة, شاهدت انعكاساً ضبابياً لجسد ما, فركت عينيها, لكن الصورة ظلت كما هي, تساءلت هل أنا ميتة؟ لكن لما أنا هنا؟ لا لست ميته أنا فقط في كابوس وسأستيقظ.
تحسست قلبها, كان صامتاً كالصخر, جسدها بارد, وتنفسها منقطع, لقد ظنت أن ما جرى بسبب خوفها من الصواعق ولكنها ما زالت على نفس الحال منذ...! شعرت بفراغ كبير في داخلها يجعل الزمن مجهولاً, لا تشعر بمروره أو توقفه.
تمددت في فراشها تسمع ضحكة شبيهتها ووالدتها, حينما حل السكون في الخارج, شاهدت شبيهتها تدخل الغرفة وتتمدد في السرير, وكأن جسدها لا وجود له, ولا يشغل حيزاً من الفراغ, ذُعرت؛ فابتعدت إلى طرف السرير, التصقت بالجدار.
حينما أشرقت الشمس لم تدر هل نامت أم لا, كان كل شيء ضبابياً, استيقظت شبيهتها, وقامت بكل ما تقوم هي به عادة من تحضير طعام وعناية بوالدتها, ثم ارتدت ملابسها وذهبت إلى العمل.
رأت بسمة انها فرصة مناسبة كي تحدث والدتها في غياب هذه المتطفلة, جلست تدعو قليلاً لعلها تستيقظ من الكابوس, ثم تربعت أمام والدتها, حدثتها عن العمل, وأن صحتها ستكون جيدة, وألا تخاف من العملية, وأنها ستوفر المبلغ, لكن والدتها لم تتفاعل معها, و لم تدرك وجودها.
قامت بسمة بكسر كوب, التفتت والدتها للنافذة التي دخلت منها الريح, قامت بجمع شظايا الكوب المكسور, شعرت بسمة بأنها انتصرت, أخيراً هناك وسيلة لتتواصل بوالدتها, قامت بالكتابة على ورقة موضوعه على الطاولة كي تراها والدتها, لكن والدتها قرأت الرقم المسجل سلفاً لجارتها, واتصلت دون أن تلقي بالاً لرسالة بسمة, اقتربت بسمة لترى الورقة فارغة وكتابتها لم تظهر.
خرجت من المنزل غاضبة, هل تعيش معهما هكذا كشبح؟ ولم تعيش معهما؟ هي من لها الحق بالعيش في المنزل أصلاً وليس هذه الغربية.
اتجهت إلى المحل التجاري الذي تعمل به, منتظرة توبيخاً من صاحب العمل, لكن الكل تجلها وكأنها لم تتأخر.
حينما وقفت في مكانها المعتاد للبيع رأتها, كانت شبيهتها تقلد كل حركاتها, كيف يمكن أن تكون هناك نسخة مطابقة لهذا الحد في كل شيء؟!
حينما كانت في زاوية وحدها اقترب منها المدير بطريقة وقحة حتى كاد يلتصق بها, كانت بسمة تنظر.
همس في أذنها: ها ماذا قلتِ؟ لن تخسري الكثير في مقابل حياة والدتكِ, أيهما أهم الآن.
صرخت بسمة: لا... لا سأجد طريقاً آخر لإنقاذ أمي.
دفعته شبيهتها, عادت للعمل, ذهبت بسمة إليه تصرخ, تسبه, لكنه لم يسمعها, وعاد أدراجه إلى مكتبه يتوعدها.
عادت بسمة باكية إلى البيت, تنظر إلى والدتها من بعيد, تجاهد كي تنجز أبسط شؤنها المنزلية, تكابد أوجاعاً متفرقة, جلست والدتها على كرسيها, تضغط بيدها على ساقيها لتخفف الألم الذي ينتقل من مكان لآخر.
- كيف اترك بسمة لمن؟ يا رب كيف سأتركها, لا أريد أن يستغل الناس طيبتها, وهي وحيدة لا أب ولا زوج, أعلم أنها تكابد في عملها الشريف كي تجمع مال العملية, لاشك انها تتعب, يا الهي كن معها.
دفنت بسمة وجهها بين كفيها تفكر, كيف ستقول لها أنها جمعت المال؟ وكيف سُرق؟
تخبطت بسمة في شوارع المدينة الواسعة, كل ما فيها يضيق عليها, العار ينهشها, والحزن, وحيرة لوضع لا تعرفه, لم تعد تعرف حقاً إن كانت على قيد الحياة أم ميتة, أم أن هذا عقاب لها أن تخرج من عالمها؛ ليضع القدر من يشبهها بدلاً عنها, كي تعيش وحيدة أخيراً كما كانت تخشى, لكن وحيدة وهي وسط الجميع, أمها بقربها ولا تستطيع أن تنال قُبلة منها أو لمسة يد, لا أحد يشعر بأن هذه الشبيهة ليست بسمة, إنها تحتل كل شيء في حياتها, تأخذ علاقاتها, عملها, والأهم والدتها, كيف ستسمح لها بالاستمرار في إقصائها في فقاعتها هذه بينما هي تعيش حياتها.
اشتغل الغضب فيها, أخذت سكيناً من المطبخ, وخرجت من المنزل.
كررت لنفسها وهي تسير في حزم: عليها أن تخرج من حياتي, تتوقف عما فعلته بي كي لا يراني الجميع و يتجاهلوني, وإلا سترحل بطريقتي, يجب أن أستعيد ما هو لي.
وصلت إلى المحل التجاري الذي تعمل فيه, تربصت بها حتى خرجت متـأخرة, وحينما همت بالاقتراب شاهدتها تدخل سيارة صاحب العمل, فغرت فاهها دهشة, صرخت: لا.. لا تذهبي
لحقت بهم إلى حيث تعرف انه سيأخذها, كانت تركض بخفة, المسافات تُطوى تحت قدميها.
فتحت باب منزله, شاهدت شبيهتها واجمة تنتظر في الصالة أن تأخذ المال, بينما كانت تلملم أشلاء روحها التي تركتها في سريره.
أخذت المال وخرجت, لحقت بها بسمة صارخة:
لماذا؟ لقد قلت لكِ لا.. لا تذهبي
كانت شبيهتها تبكي, تهمس لنفسها : أمي سامحيني.. سامحيني
تذكرت بسمة ما جرى لها, شعرت بأن شبيهتها المسكينة ستتعرض للسرقة, فكرت قليلاً سأحميها كي توصل المال لأمي, ثم أستعيد حياتي مع أمي وترحل هي.
وقفت أمامها وهي تنتظر سيارة أجرة.
هددتها: أعطني المال, وأخرجي من حياتنا, لن أقبل بأن تأخذي مكاني.
مدت بسمة يدها لتأخذ الحقيبة, لكن يد شبيهتها متمسكة بها بقوة, رفعت بسمة السكين مهددة إياها.
لم تلق شبيهتها بالاً لتهديداتها, أنهمر المطر بشدة, أبرقت السماء صم الرعد الآذان, غرست بسمة سكينها في قلب شبيهتها حينما نزلت صاعقة عليهما, ذاب الجسدين معاً, سقط جسدها أرضاً والخنجر يخترق صدرها والدم يلون مياه المطر.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24