الجمعة 26 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
قصة قصيرة
الثلاثة - عبالفتاح عبد الولي
الساعة 19:00 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

كانت تقوده وآثار يده القوية واضحة على كتفها اليمنى كقرص عباد الشمس.
أحدثت العصا صوتا مسموعا وهي ترتطم بحجارة وحصى الشارع الترابي..هذه العصا كافحت كثيرا ,وهي تعرف كل حارات وأزقة صنعاء..الطبري,بروم,الأبهر,سوق الملح,باب اليمن,شعوب,القاع....
أطبقت الأصابع على كتف الفتاة التي أسبلت جفني عينيها وإنتاب جسدها الصغير رعشة انتشاء, وغمرها عاطفة حب وشفقةلهذا الشيخ الذي يتبع خطواتها ولعصاه الملازمة ليده دوما.
أصحاب الدكاكين..سكان صنعاء,يعرفون هؤلاء الثلاثة الذين لا يفترقون عن بعضهم كنجوم الثريا..يتصدقون عليهم.منهم من يقول:إنما اتصدق عليهم لوجه الله,ومنهم من يؤكد إنه يتصدق على هذا الأعمى الذي فقد بصره أيام الحرب مع الأتراك..والبعض الآخر,يتصدق من أجل عيني سعدية السوداوين,وغيرهم يتصدقون رأفة بالعصا من كثرة توكؤ الشيخ ذبح التركي عليها.
كان الأعمى وسعدية والعصا يشقون طريقهم في اتجاه الجامع الكبير,فاليوم جمعة جامعة,والدعوة عند الله مسموعة.
أسرعت سعدية الخطى أمامهم..إبتسم الشيخ لأنه يعرف أنها دائمة الصراع مع الشحاذين حول الحصول على الموقع المناسب أمام الجامع, فجارى خطواتها دون تذمر ودبت العصا على الأرض محدثة أصواتا مضطربة, ما أن وصلوا إلى باب الجامع حتى بدأت سعدية في الصراخ:شحاذون !!..أية عاهات بهم؟!,لماذا يتصدق الناس عليهم؟!..انظروا إلى ابدانهم القوية, الحرى بهم أن يعملوا ويأكلوا من عرق جبينهم..أليس الشيخ ذابح التركي أحوج ألى الصدقة منهم؟..وسام بطولته مرسوم على عينيه..الناس يتجاهلون ذلك..ينبذون أبطالهم.
وبعد صمت قصير تقول:- إسمعوا..إسمعوا,هذا ذبح التركي,إنسان وطني معروف,حارب الأتراك حتى فقد أغلى ما يملكه الإنسان.

*****

-سعدية..كم أنت جميلة..! ، هيا بنا إلى البيت,تأكدي إن زوجتي,ستقوم بغسل ملابسك,وتمشيط شعرك الطويل..نعم إن لك شعراطويلا كغابة من الريحان الأسود,إنظري كيف تلعب به الريح. هيا ستلمعين بعد ذلك كالجوهرة.
-لا ,لن اترك أبي,إنني أفضل أن أبقى هكذا متسخة..ثم,ألا تعلم إن طبقة الأوساخ التي تعلو جسدي تقيني من برد شتاء صنعاء القارس؟!...
- وأنت أيها الشيخ ذابح التركي,ألا ترغب بزيارتنا في منزلنا؟..إعلم يا هذا إنني سأقوم بكل الواجب.

لسعدية وجه مستدير ,وبشرة بضة مضيأة,وأهداب طويلة,وعيناها لؤلؤيتين محروستان بحاجبين أسودين مقوسين.نهداها صغيران مكورين كتفاحتين,ولها قوام رائع التكوين....شبان المدينة ينظرون اليها باشتهاء ويتسابقون لامتلاكها.حتى المتزوجون منهم يرغبون بها.
كان الشيخ يعرف ذلك تماما,ويفكر في ذاك الذي سيأتي يوما ليخرج قلبها من موضعه ويفصلها عنه وعن عصاه..عصفت به هذه الفكرة بضراوة فارتفعت عصاه عاليا في اتجاه الرجل وهي تشتعل بنار الغيرة.
-إذهب في طريقك يا هذا,وإلا ستقوم هذه العصا بواجبها.
لكز سعدية بالعصا وتابعنا الطريق نحو الطبري.
-هل كان رزق اليوم طيبا يا سعدية؟
- نعم أبي..الحمدلله,نستطيع أن نشتري (كدم خاص)و(سحاوق)ومطيبتين...
-مرق.
اجتازوا السائلة,ودخلوا شارع باب السبح.

******

- سعدية..خذي هذه (الزنة)هدية مني..بس بشرط...
-لا اريدها .شكرا يا حياتي..أنا ما زلت طفلة,إهدها لزوجتك أو لإختك..,أغرب عن وجهي,فأم أطفالك تنتظر عودتك إلى البيت,هيا..إسرع!!.

قامت العصا بواجبها هذه المرة,فهرب الرجل..

*******

نحن الثلاثة

 أنا ذابح التركي..أذكر تلك الأيام. هاكم يدي...إنظروا ,عيني..إنظروا. آثار البارود..جبيني. آثار السيوف والخناجر..إنظرو..إنظروا..إنظروا. كل شيئ,واضح ,واضح. وأنا سعيد أن أريكم كل هذا!. (دعان) !! مقبرة كانت للاتراك.هه..ها,قتلت الكثير منهم. يا هو..مازلت محتفظا بعتاد الحرب من ذلك الوقت..كانت أياما,وكنا أبطالا,لم نكن نعرف لا القنابل,ولا البازوكا,ولا الطائرات الحربية. أسلحتنا كانت بسيطة,لكن الإرادة,الإرادة.الأحجار,الأسنان,الأظافر,و (الجنابي) كانت أسلحتنا,وكان مهر العروس رأس تركي,آه,كم أنا مغرم بذرات هذا التراب الذي سقيته يوما ما بدمي وعرقي.الويل لمن يفكر بتدنيسه مادامت الدماء تجري في شراييني.

 أنا..أنا العصا،لي قصة مع الشيخ ذابح التركي.أأحكيها لكم؟..حسنا,ما زلت أذكر تلك الأيام, أذكر رذاذ المطر, والدماء التي سالت ..وقتذاك,أتي الشيخ إلى أمي السدرة,وقف عند جذعها..طلبني,خفق نسغي,كقلب عذراء.كان وجهه أسودا،ولا أثر لعينيه,كانتا مخفيتان تحت عصابة بيضاء - حمراء, والدماء..الدماء كانت غزيرة,رسمت على وجهه خطوطا قانية متعرجة كجذور أمي,طلب يدي,أخذني اليه..أحبني..أحببته من كل جوارحي,صرت زميلته في الحياة, لا تفارقني يده القوية الحنونة.

 أنا سعدية..كل الشوارع والأزقة والحارات تعرفني.كل الناس يتحدثون عن جمالي وفتنتي.والعيون تتابع ظلي,وتعرف مواطئ أقدامي المنقوشة على الطرق. الألسن ترشقني بالكلمات الحلوة والمرة, وتحاك القصص والحكايات والأقاويل عني.أنا غير آبهة,وبي كبرياء..أحب أبي ذابح التركي وهذا يكفي..أنا جميلة,نعم..أعشق نفسي لدرجة الهوس,نرجسية نعم,لكني أيضا أحبكم,وسأهبكم نفسي عندما أكبر..أقسم بأنني سأعطي.
أحبكم لأن طبقة الأوساخ تغطي أجسادكم مثلي,سنغتسل معا يوم عيدي,البرد الذي يتسرب من ثنايا ملابسنا سيغدو دفأ.فقط,إنتظروا بلوغي,عند ذلك سنمارس الحب علنا,وسأهبكم أطفالا.

*********

سوق الملح

...هدوء..هدوء
الزحام, الزحام بلغ أشده,كتل من البشر تموج...في الوسط بدأت الدائرة تتفتح ببطء.
كل العيون مصوبة إلى وسط الدائرة حيث وقف الثلاثة.
إعتلى بعض الناس أكتاف البعض الأخر.
بيوت صنعاء وجوامعها خلت من السكان والمصليين.الجميع هنا,في سوق الملح.
تركوا الدكاكين والمقاهي مشرعة الأبواب,لا وجود للصوص في المدينة.تسلل الأطفال من بين أرجل الكبار,و قف آخرون فوق سطوح الحوانيت والمنازل,وتعلق آخرون بالأعمدة والمنارات والجدران, فجأة حجبت سحب سوداء قرص الشمس الذي كان مسلطا ضوءه إلى وسط الدائرة...وفجأة أنهمر المطر غزيرا ,مطر لم تعرف صنعاء له مثيلا في الأزمنة السابفة. لم يبرح الناس مواقعهم..مطر..مطر..مطر, إزداد غزارة فتبلل الناس والبيوت به حتى العظام.

 

.........أكتوبر1974م

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24