الجمعة 26 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
(مرايا الازمنة) لأنور العنسي ...المكان لا يستعاد بالحنين وحده - محمد عبد الوهاب الشيباني
الساعة 19:01 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

من 31 مدينة وموضع في قارات شتى في شرق الأرض ومغاربها، كتب عنها أنور العنسي (الشاعر والإعلامي اليمني) وضمها كتابه مرايا الازمنة (*) ، تبقى قرية الذاري بمنطقة خبان في إب، ومدن تعز وصنعاء وعدن وذمار وشبام هن الاكثر تمثيلا لحنين الشاعر لطفولته، وتكوينه الثقافي وامتداده الهوياتي في المكان.
اما غيرها من المدن تبقى مكملا لصورة الترحال والاقامة لضرورات التعلم ، وتاليا العمل والمكابدة المهنية ، التي يخوضها الإعلامي والمراسل لتليفزيونات وقنوات معروفة وذائعة.
فالذاري القرية المعزولة و التي يستعيدها بواسطة العنونة ،بعد نصف قرن، بانها مدينته الاولى، 
هي قرية اسرته وبيتهم الريفي القديم ،بيضاء ،وديعة،تنام مثل حجر مضئ بين هضبتين،وفي اسفلها واد اخضر فاتن ووارف بالشجر والزروع والثمر. 
كانت تبدو له مركزا للكون الذي ينتهي جنوبا عند بحر عدن وشمالا عند جبال صنعاء.
في سماء هذه القرية امتزجت اهازيج الحصاد بمواويل المراعي ، وتماهت ادخنة المطابخ مع الغيوم الماطرة .والسحب العابرة.
وفي الافق ترامت المروج السندسية الخضراء ،لتشعل تفاصيل الطبيعة هذه مخيلة الكاتب باكرا،وتفجر رغباته في الرسم والتصوير وكتابة الشعر.
والقرية ذاتها هي التي جعلته ،بعد مداهمتها من محاربين قبليين من خارجها واحراق كثير من مساكنها ،يعي معنى الحرب وما الذي تصنعه في التاريخ والجغرافيا والبشر.

في مدينة ذمار (كرسي الزيدية) حيث ولد ،مع دخول اليمن لحظة المخاض الاصعب في تحولها التاريخي مطلع ستينيات القرن المنقضي ، اكتشف في داخله الفتى المتمرد وصاحب الرغبة الجامحة للاحتجاج على تنشئته الدينية والاجتماعية الصارمة ، لهذا لم يتردد كثيرا في الانتساب لحزب يساري هو الحزب الديموقراطي الثوري، رغم خشيته الشديدة، ليس من السجن والاعتقال،.لكن من افتضاح امره داخل اسرته شديدة المحافظة والصرامة. 
ومن زمن الطفولة البائسة في ذمار لم يتبق في الذاكرة ،بعد خمسين عاما، سوى القليل من ومضات الفرح ،وبقايا من غبار شوارعها ،والاهم تلك المكرمة التي كان يتفضل بها معلمو الكتاتيب له ولاقرانه الاطفال باخذهم الى جنازات الموتى كمهللين ومكبرين او اخذهم لمشاهدة تنفيذ احكام الاعدام في ساحات المدينة!!

وقبل ان ياتي الى تعز - المدينة التي كانت قبلة اليمنيين بوصفها مركزا تنويريا واقتصاديا وجماليا مهما، قياسا ببقية مدن شمال اليمن في حقبة السبعينيات ،كان ينظر الى العائدين منها الى ذمار بوصفهم كائنات من عالم اخر، يتحدثون عن النساء اللائي يدرسن ويعملن ويمارسن الرياضة ويمشين سافرات ، ويتحدثون عن السينما وافلام القاهرة ودلهي وهوليوود.
وحين اتاها مشبعا بالحنين ذاب فيها ليكشف عن تفاصيل جمالها الاستثناء من خضرة جبلها ومياه اوديتها ، عن طيب هوائها ،وأشجار الجهنمية ذات الازهار الشفقيةاللون المتدلية من اعلى اسوار الفلل الفخمة،وكانت تضعه في ما يشبه طقسا بديعا لمدينة بعيدة او جزيرة على البحر المتوسط او الكاريبي. 
واكثر من دور تعز في حقب التنوير السياسي والاجتماعي منذ منتصف القرن الماضي كان يغريه ذلك المعنى الذي كادت تعز تعطيه للمدينة الحديثة، والصورة التي سعت لان تجعل منها نموذجا لمجتمعنا الجديد.

في محطة صنعاء ،سنكتشف الشاعر والمصور قلما مغموسا بالشغف، لان صنعاء طيبة كالغيوم، نقية مثل عين ماء في اقاصي الجبال،ووديعة كغزال يركض بين ينابيع روحه واودية الذاكرة، توزعت ملاعبها صباه،وسكنته قصيدة عصماء واغنية حالمة.
حالة عشق بينهما غامضة حد الوضوح، وواضحة حد الغموض، لاقدرة للغة ولا لبكاء، ولا حتى للجنون على تفسير وهجهها وحميميتها.

يكفي ان تهندس للعنونة من كلمة واحدة لتخزل كلما تريد قوله عن المكان والزمان ومؤثثاتهما من البشر والحكايات ، وهذا الامر انطبق تماما على المكتوب عن مدينة مثل عدن، وتعنونت المادة بالاحرف الثلاثة المصبوبة في كلمة واحدة تشعل كل الوجدان (عدن)،التي كانت عند انور وغيره الجهة الاساسية في بوصلة الوعي الجمعي بالزمان والمكان والاشياء كلها.
لم يعش كثيرا في عدن غير انها سكنت مبكرا في داخله، واقامت ملكوتها، ولا تزال تكتب اساطيرها في مناخات الروح كيفما تشاء. 
موبوء بعشق زرقة بحارها ورائحة بخور نسائها، ورائحة الفل والكاذي والمشموم، ومذاق حلواها، وطعام مخابزها التقليدية.
وعن شبام حضرموت.. آلهة الطين ، المدينة التي تحضر في الجغرافيا والتاريخ شامخة تناطح السحب، وتشهد على صيرورات الارض والزمن.
انها موسوعة بنايات شاهقة يتمايز كله عن بعضه في تنوع فريد، ويتوحدجميعها في فلسفة بناء تقليدي ابدعت نظرياته عبقرية المكان،وراكمت تطوره عصور من التفكير الخلاق التواق الى جعل الارض المصدر الوحيد لنظام حياة وعمران يتلاءم مع الخصائص الجغرافية والمناخية لبيئة اجود واغلى ماتمتلكه هو ترابها الاسطوري دون سواه.
ختاما
لم نعرض من الكتاب غير قسمه الاول المعنون (اليمن.. ابجدية الحلم وفاتحة التجلي) وهو 
يستحق اكثر من قراءة معمقة ،غير هذه التحية العابرة. 
فهو كموضوع يسيحك في مشارق الارض ومغاربها بلغة تتقطر شعرا وتصاوير بمنتهى الادهاش . وهو كتقنية انتصر للكتابة بدون قصدية الجنوسة والتعليب الصارم ، متجاوزا وبوعي وخبرة فذلكة الحدود بين الانواع، ليقول في النهاية اقرأوا باستمتاع عن المكان والزمان، حتى وهما يكابدان من اجل القبض على جمرة متوهجة في القلب الاخضر.

(*) الطبعة الاولى 2016 - دائرة الثقافة والاعلام - الشارقة

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24