الاثنين 29 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
سلطان البدايات - طارق آلسكري
الساعة 12:30 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 
 

في موضوع إعادة العلاقة بالماضي يقف الباحث متأملا سلسلة طويلة من العلائق الجدلية بين الفلاسفة وبابوات السلطة الروحية في روما آنذك . بين حداثة الشعر العباسي وموقف اللغويين منه . بين الكلاسيكيين في القرن التاسع عشر وبين الرومانسيين . بين الاتجاهات اليسارية والتيارات الإسلامية الصاعدة . 
دوَّامةٌ تخطف الأنفاس من الأفكار ! 
انتصرت الحداثة في مطلع عصر التنوير ، وجعلت الدين خارج التاريخ وأعلنت القطيعة مع التراث . 
لكن ذلك فيما يبدو كان له أثر بالغ الخطورة .. لقد غابت الروح وتحول الإنسان إلى أرقام وآلات فاختلَّ ميزان الطبيعة . 
أحس العقلاء بالاقتراب من الهاوية فشرعوا يدقون أجراس الخطر !
ففي كتابها الجديد : سلطان البدايات . والذي جمعت فيه بين الديني والاجتماعي والسياسي والتربوي والحداثي ، تقول الكاتبة الأميركية ميريام دالون : ( إن الفكرة التي تزعم أن الحداثة قامت على استقلالية ذاتية عقلانية وهم وخداع! بل إن الحداثة في كل مظاهرها ليست سوى نتيجة تحولات ماضوية ). لتثير هذه المقولة حلقات كثيرة من التساؤلات تشبه حلقات الماء التي يخلفها سقوط حجر في مستنقع لاتدري متى تنتهي ! ولأن كتابها مبحث في السلطة فالكاتبة تدخل السلطة ضمن هذه المعادلة :
السلطة الروحية + السلطة القانونية = سلطان السلطة . يعني أن السلطة في قاموسها : أقلُّ من أمر وأكثرُ من نصيحة صــــــــــ55
على إثر ذلك تستطرد قائلة : ( كل المفاهيم الراسخة الخاصة بنظرية الدولة الحديثة هي مفاهيم لاهوتية تمَّت علمنتها )! وقد استعرضت في كتابها الكثير من آراء فلاسفة وأدباء العصر الذين أحسوا رياح الخطر وهي تقبل من بعيد كجاك روسو وغيره الذين يشاركونها همّ غياب السلطة الروحية ! وقريبٌ من هذه الجزئية ولكن في حقل مختلف من حقول المعرفة وهو الحقل الأدبي تحديداً فيما ورد في كتاب بعنوان : النقد التطبيقي الجمالي واللغوي د.أحمد عثمان رحماني يقول : إن النقد الغربي الآن أصبح يُعنى بالروح عناية فائقة على مستوى الأدب ونقده ، لأنه آمن أن المادة قد سلبت الإنسان حقيقته وجعلته عبداً للظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لكي يسترجع علاقته بميراثه المفقود من خلال الدين . ثم يستشهد بمقولة أحد أعظم أدباء الغرب نورمان فورستر : إذا كانت حياة الإنسان فعلا مقرفة وبهيمية تماما كما يمثلها جانب كبير من الأدب في عصرنا ، فإن انتظار الشر المنظم والمميْكن والمنطلق الآن في العالم ، لن يتأكد أو يتعزز إلا بكارثة قد احتلت مكانها فعلا ، ولن تنقذنا القوات الحربية والعسكرية الضخمة بآلاتها وعددها وحدها ، ولكن يجب أيضا أن نعيد اكتساب كل ميراثنا المفقود من الحرية والنظام ، وعلى الحرية والنظام يعتمد الإيمان بكرامة الإنسان وبالتالي لن يستطيع هذا أن يتحقق إلا من خلال التجديد الديني للإيمان بالإنسان ككائن روحي صــــــ49
لذا فإن الكاتبة تقرِّر : ( إن الحداثة غير قادرة على القطيعة مع التراث وغير قادرة على التجدد صـــــــــــــ105
وفي كتابه الملهم : الصورة الشعرية يقول سيسل لويتس في الفصل الرابع : الصور الفنية المهشَّمة : إن التقدم في المعرفة والذوق يميل إلى تضييق حدود الخيال وتشذيب أجنحة الشعر صـــــــ131 وفي أواخر السطور يقول : ( إن ظاهرة الانفصام بين القيم الروحية والمادية أصابت خيال الشعراء عامة صــــــــ 131 ) بتصرف يسير . وهو بلاشك يتحدث هنا عن خصائص الشعر وطبيعته مستدعياً صور الشعر في القديم والتي كانت ألصق بالطبيعة والعزلة والسحر فجاءت فاتنة ومعبَّرة ، وبين الصور الشعرية الحديثة التي أصبحت بصورها المزيفة بمثابة ورود الزينة على سطح القصيدة ! يقول : ( فالشعر عند شعرائنا إما غارق في ضباب من الكثافة والغموض ، وإنما وشيٌ وزخارف وأوزان ) الصورة الشعرية بتصرف يسير صــــ 22
وهو في هذا المصَبِّ يلتقي مع الدكتور جابر عصفور في كتابه الماتع : الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب حيث يقول :( ... وثمة نصوص ورثناها من الشعر الجاهلي يكشف لنا تأملها أن الشاعر الجاهلي كان يفترض أن الشعر ليس مجرد القدرة على نظم كلمات موزونة مقفاة ، بقدر ماهو قدرة على دقة الوصف والتشبيه) صـــــــ104
والكاتبة بدعوتها إلى إعادة سلطة الروح إنما تُمكِّنُ لعالم المثل . كما هو عند السهروردي في فلسفة الإشراق . الخيال مفهوماته ووظائفه د.عاطف جوده نصر .صــــــــ81 وكما هي عند الأفلاطونية الحديثة أيضا .
الكتاب رائع بحق .. فهو يتتبع خيط التجربة السياسية لدى السلطة الرومانية القديمة ونشأة المدينة واستمراريتها .
بالطبع أن ماذكرته في هذه الأوراق قابل للجدل . لأني تناولته من وجهة نظر أدبية . 
سأختم حديثي عند إحدى تساؤلاتها المثيرة في الكتاب : ( يسأل سائل : ماذا حل بالسلطة في عالم بات فيه الانسلاخ عن التقليد والماضي أمرا وجب الرجوع إليه ؟ وماذا يحدث عندما تصبح السلطة في مواجهة الفردانية ، ونزعة المساواة الديمقراطية ، وعندما ينقطع المستقبل عن كل رجاء ، كماهو الحال اليوم ؟) .


2 إبريل 2019

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24