الخميس 02 مايو 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
الأستاذ/ خالد الرويشان
كُلّ هذا البهاء .. كُلّ هذا العناد!
الساعة 21:44
الأستاذ/ خالد الرويشان

هذا هو إذن - سليمان العيسى . ما تزال صورة اللقاء الأول مرسومة بماء العين ساكنةً فـي شغاف القلب.. تمرُّ السنوات، وتتوالى اللقاءات والصورة تزداد وضوحاً ورسوخاً .

يروْعُك - أوَّل ما يروعك - بياضٌ شاهقُ الضوء من قمة الرأس حتى أخمص القدم، جدائل شعْره الأشيب المهيب، قامة الصدق الفارعة، الوجه الناضح بالنور؛ الطافح ببهاءٍ ساحر غامض. العينان اللتان تشعان القوة والثقة؛ ولوهلةٍ ربما خيّل إليك أنهما وادعتان هانئتان.. لكنك ستعرف بعد حينٍ.. أنها وداعة الواثق، وهناءة الحكيم العارف المجرّب. أو لعلها وداعة المكان وهناءة اللَّحظة. حتى لباسه البسيط يشّع ويضيء؛ فالرجل بياضٌ فـي بياض، نورٌ على نور . ولا يتأتى ذلك إلا لروحٍ تقتات الصدق.. والصدق أبيض فـي القول والفعل، مع النفس ومع الآخر.

تفرّعتْ دوحةُ الصدق أفناناً وأفـياءً: 
قوةَ المبدأ ووضوحَه،
عنفوانَ الشاعر وحماسَه، 
أحلامَ الثائرِ وآماله..
وحده, هذا الرجل عُمْرٌ من العنفوان.

نجومٌ كثيرةٌ لمعت فـي سماواتنا ثم تهاوت فـي شِباك الذهب، وتلاشت فـي فخاخ الغواية.
تأمّل بدايات معظم أعلام العرب «أوهام العرب» ونهاياتها؛ هل من مشعل ضوءٍ قُرْب نهاية الطريق؟ وإذا كان ثمة ضوءٌ.. هل هو بنفس زخم البداية.. أمْ أنّهُ يتلاشى وربما انطفأ من أوّل زخّةِ مطرٍ أو لـمسة ريح.
وحده سليمان العيسى لهبٌ أضاء ويضيء.. تـُـرى، أيُّة عاصفةٍ أشعلت هذا اللهب، ومن أيَّة جذوةِ نورٍ اندلع واندفق،.. ومن أيّ زيتٍ مقدّسٍ اغتذى، وأيّة جمرةِ عنادٍ خرافـيةٍ هذه التي لسعت سُبات العرب، وأذكت براعم النار والثورة والأمل.

تسعون عاماً من الضوء.. تسعون عاماً من أناشيد الجمر.. غنتها معه الملايين وما تزال.
كم كان حزيناً لأحوال وطنهِ العربي الكبير.. هل كان الهوى عبثاً..؟ تساؤلٌ مُوجعٌ انبثق من آلام وخيبات نصف قرنٍ من عمر الشاعر فـي صعودهِ المضني نحو الانعتاق والضوء والهواء الطلق، حاملاً على ظهره آمال وآلام أمته في جبال الآلام, وشِعاب الصّبْر هُنا في اليمن, انبثقت أمام الشاعرِ عيونٌ من الأمل، ودروبٌ من النور.. هذه رؤيتهُ وهذا حُلمهُ وتلك نبوءتهُ!
كيفَ ترى أيها الشاعرُ ما لا يراهُ الآخرون؟.. تلك قصة ٌفريدةٌ وحيدةٌ، فريدةٌ في تاريخ الشعر والحب، وحيدةٌ فـي تاريخ العرب قديمه وحديثه.

يُقطّر شاعرٌ عذوبةَ روحهِ ووردَ دمِهِ، وزهرَ أحلامه وتجربته، كي يسقي بها تجاعيد هذه الأرض، ويغسل أحزان جبالها المكفهرة الشاخصة. وكي يزرع ولو برق بسمةٍ أو أملٍ على وجه طفلٍ بائسٍ، أو راعيةٍ صغيرةٍ لوّحتها عذابات الانتظار .

وكانت الثمرة -الإلياذة- ديوان اليمن، أو يمانيات سليمان العيسى، ولا أقول سيفـيات، فديوان اليمن وتوأمه «الثمالات»على ضخامتهما، لم يضمّا بين جوانحهما سيفاً - أو حتى سكّيناً - ولا ذهباً.
كثرٌ هم الذين تساقطوا فـي عالمنا العربي بين ذهب المُعِزّ وسيفه.. وبعضهم زادَ فتهالك لأكل ما لا يُؤكل، وشُرب ما لا يُشرب.

يمانياتُ سليمان العيسى عُرْسٌ وإكليلٌ وهوىً آسرٌ، عرس شاعر وبلاد، مهرجانُ فرحٍ وأناشيدُ أملٍ، ومناجاة مُحب. عرسٌ كانت البلاد كلها خيمَتهُ من ثغر عدن الساحر.. مروراً بشجرة الغريب الأسطورية، وقصائد تعز، وصولاً إلى عمرو بن معد يكرب فـي صعدة.

ذات مساءٍ أُذيع على مسامع العالم حصولُ الشاعر على جائزةٍ كبيرةٍ. الجوائز تأتي إليه، ولا يذهب إليها - هَاتفتُهُ، ..
كيف أنت يا أستاذ؟ 
-لا بأس. 
أخبارك؟ -
لا شيء مهم. - 
لا شيء مهم؟ تساءلتُ: سمعتُ خبراً رائعاً أذيع للتو. - أعرفُ.. أجابني.. ثم أضاف لقد أخبروني صباح أمس رسمياً قبل الإعلان. قلتُ معاتباً: لماذا لم تخبرني خبراً سارّاً كهذا وقد أمضينا معظم ساعات النهار معاً؟.. - يا رجل - أجاب - والله. أكمل وهو يُقسِمُ مفخِّماً لفظ الجلالة بلهجته الشامية الرائعة.. والله.. إن مفتاح مدينة إب المُهدى إليَّ قبل أيامٍ أثناء افتتاح مكتبتها العامة لهو أعظم فـي عيني وأبقى فـي ضميري.
صار الشاعر هو القصيدة! وكان ذلك - لعمري - مرتقىً صعباً لا يصل إليه كثيرٌ من هامات الفكر والأدب في عالمنا العربي.

كانت أيامُه بيننا عصراً باهراً بألق الإبداع، باذخاً بعطر الشعر، ونقاء الهدف، وصفاء السريرة، وروعة الروح العربية في أحسن أحوالها.. وداعاً شاعرنا الكبير, وحادي أحلام العرب في القرن العشرين.

 

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24