الخميس 25 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
زهر الغرام .. بين عبودية مُنغِصة ، وحرية مُنتقصة - فاروق مريش
الساعة 16:50 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


استحقت هذه الرواية لتكون ضمن 10 أعمال روائية في القائمة الطويلة لفئة الرواية " كبار " في جائزة راشد بن حمد الشرقي للإبداع .
وذلك لما اتسمت به من حكائية عالية ملمة بواقع وتفاصيل وثقافة الفكرة التي حاول الروائي أن يوصلها للقارئ من خلال صوت الراوية وبطلتها زهر الغرام  .
الرواية تتحدث عن زواج مواطن يمني قبيلي اسمه حبيب ، من فتاة يمنية في ذروة بلوغها وهي من فئة المهمشين أو ما نسميهم اصطلاحاً بالأخدام .
قصة الزواج السري بينهما وحكاية هروبهما من منطقة الأعروق موطن الكاتب ، إلى مدينة الحديدة واستمرار هذا الزواج سراً لمدة تجاوزت 15 عاماً ، تخللتها الكثير من العُقد الروائية والعُقد النفسية التي حاول الكاتب تسليط الضوء عليها كونها تمثل عقدة خطيرة جداً في تركيبة المجتمع اليمني ضمن إطار حدثي متسلسل مثل حبكة روائية نادرة. 
عشت واقع الرواية حياتياً قبل أن أعيشه في خيالات وأحرف الروائي ، فمنذ أكثر من سبع سنوات كنت ضمن مبادرة طوعية أسميناها ( معاً ) وكنا نستهدف بهذه المبادرة المحوى في دار سلم وتعرفنا على هذه الفئة عن كثب ، وبين أحداث وشخصيات الواقع والرواية هناك تشابه كبير جعلتني أشعر أنني جزء من أحداث الرواية .
كمرور عابر سبيل على مدينة ثرية لا يخرج منها إلا بفتات ، سنمر على بعض الجزئيات التي سنوردها تباعاً ونحن نفكك ثيمات هذه الرواية التي تجاوز صاحبها ذاته في رواية زربة اليمني ، بقدرته التقنية والتركيز على مسار الأحداث وتتابعها وفق نظام متماسك الصنعة .
وبداية نضع تساؤلات مهمة ، من هم الأخدام ؟ ومن أين جاءوا ؟ ولماذا كل هذا التهميش العنصري ضدهم ؟ وما السبيل لتحريرهم من جور اتفاقية الحاكم علي بن مهدي الرعيني ؟
ولماذا ينفر المجتمع اليمني حتى المتعلمين منهم ، ومن مخالطتهم والأكل معهم ، ومنعهم حتى من حقوق الدفن والموت بعد حرمانهم من حقوق الحياة ؟
 وبحسب دراسات بحثية لبعض الباحثين تشير أن الأخدام هم من الموالي الذين استقدمهم حكام دولة بني نجاح من الحبشة لدعم دولتهم في زبيد- بعد الإسلام – والذين أمعنوا في اضطهاد السكان الأصليين وصادروا ممتلكاتهم واقتطاع أراضيهم وتحويلهم إلى عبيد، ( فتعمقت مشاعر الكراهية لهم ، والتف الناس حول زعيم الثورة ضدهم ، ( علي بن مهدي الرعيني) والذي خطب في الناس قائلاً :
" فوحق الله العظيم على كل موحد لأخدمنكم بنات الحبشة وإخوانهن ، ولأخولنكم أموالهم وأولادهم…الخ" وقد نفذ المهدي ما أقسم عليه وحول بقاياهم إلى أخدام محكوم عليهم العيش في عزلة اجتماعية وسياسية، خارج إطار المدن والأرياف ، وتأدية كل ماهو حقير من الأعمال ، في حياة بؤس أقل من رتبة العبودية ، حتى لا يتم تحريرهم من هذه المكانة .
تطرقت الرواية للمعاناة الطبقية التي لا زالت هذه الفئة تعيشها إلى زمن أحداث الرواية التي شملت ما بين عام 1960 - 2010 م ، أشار الكاتب إلى ما عمله النظام الاشتراكي في جنوب اليمن قبل الوحدة وقدرته على دمج هذه الفئة وغيرها من الذين يرزحون في قاع المجتمع اليمني ، على أساس من القانون والمواطنة المتساوية ، بينما العجز الكبير الذي ظهر في الشمال رغم محاولات أممية ومدنية كبيرة لتسليط الضوء على هذه الشريحة ومحاولات دمجهم .
إن زواج مثل هذا في مجتمعنا اليمني خصوصاً في محافظات اليمن الشمالية يكلف صاحبه الكثير من الثمن والضريبة تتجاوز مسألة الطلاق التي غزلها الكاتب في حبكته ، ناهيك عن إنجاب الأولاد ، إلى القطيعة التامة مع أهل الزوج أو من يفكر الزواج من هذه الفئات الدونية ، لتصل أذرعها إلى بيوت الأخوات والخالات والعمات ، وتشتت الأبناء وتفكك الأسر التي استقرت منذ سنوات .
فكرة الرواية تطرق لها الكثير ومن أهمهم الروائي علي المقري في روايته طعم أسود ، رائحة سوداء ، لكن الدكتور العريقي تميز عن المقري بواقعية الوصف ، وعمق التصوير والفهم لهذه الشريحة عن كثب ، كذلك في سبر أغوار روح الخادم من خلال شخصية زهر الغرام التي عاشت تجربة حب عاطفية ، جعلت منها أنموذجاً مشرفاً لأي إنسان يحاول التغيير من واقعه وبيئته ويتغلب على ظروفه الأسرية ومكانته الاجتماعية والتعليمية والمهاراتية والأسرية ليصبح ذا قيمة وفاعلية أينما حل وارتحل .
ضربت روح زهر الغرام الجديدة أروع الأمثلة في مقاومتها لشبح زهر الغرام القديمة وهي تتشبث بالعفة والشرف والثقة والأمومة ومحبة التعليم والفن ، واتقانها لمهارات المجتمع الانساني القبلي ( مجتمع الأسياد ) كما استخدمه الكاتب ، عانت معارك مع الذات في مونولوج داخلي مدهش تتقاطر له الحسرات ، وهي تتحمل أعباء الكلمات الجارحة التي كانت تجلدها كالسياط بين فترة وأخرى بدون قصد من زوجها وأقرب الناس لها ، وكذلك بقصد وتجريح من أعداء هذا الاستقرار النفسي الذي بدأته مثل أخو حبيب تاج الدين أو عبد الستار وزوجة حبيب فاطمة .
تميز الكاتب في تجاوزه لتابوه الجنس باستخدامه لمصطلحات لائقة ، دون تجاوز للغة الأدب الرصينة، كما في صفحة 23 حين قالت زهر الغرام :
" أظنه كان يفكر أنه لن يجدني عذراء ! 
ذهبت إلى الحمام لأرى جرح الرغبة الذي أحدثه في َّ، وعدت إلى حضن الحب حتى الصباح " ش.
استطاع الكاتب أن يصف بكل احترافية التحول النفسي بشكل متدرج ومنطقي لنفسية زهر الغرام التي لم تنتقل من الريف إلى المدينة فحسب ، بل انتقلت من عالم الأكواخ والقذارات والتسول والإباحية الحيوانية التي لا يحكمها غير قانون الشبق ، إلى عالم المنزل والاغتسال والطباخة والتعليم ، والمسؤولية تجاه الزوج والحمل وتربية الأبناء ، مصوراً صفة الذكاء الكبير وسرعة التعلم وحسن البديهة لدى هذه الشريحة .
ولنترك زهر الغرام تقول شيئاً في هذا السياق :
" علمني حبيب كيف أكون طاهية ماهرة ، والنظافة الجيدة التي لم أعهدها ، اكنس بيتي عدة مرات في اليوم ، وأرش ساحتها الرملية بالماء كل صباح ومساء ، علمني كيف أصلي ، فخطوت خطوات أخرى نحو عالمهم ، تمرغت ببساط الحب ، وعرفت أن المرأة أرض والرجل محراثها ، وهي الأشواك والأزهار ، وهي الجنة والنار " .
الرواية محملة بقيم النضال والإرادة ، وعبارات الأسئلة الفلسفية الواقعية ..
لماذا ماء البحر مثل دموعنا ؟
أخبرني أنه شهر التوبة ، لكني لم أقتنع فالأشهر والأيام أراها أيام الله ، والتوبة واجبةٌ طوال العام .
هم يرون أن نظافة الانسان ليست في الشكل الخارجي فقط ؛ بل في الذات أيضاً .
لا يغرك حسن الأخدام
النجاسة في العظام 
كما قالت أيضاً مدافعة عن بني جلدتها :
"نحن نرى التشرد حرية ، نقول ما يخشون قوله ، نعيش لحظتنا بسعادة وهم يعيشون الماضي والحاضر والمستقبل ، يعانون من أمراض نفسية ونحن لا نصاب مثلهم ، هكذا نرى أنفسنا أفضل من أسياد يتباهون علينا منذ القدم ، لا نفكر إلا في اللحظة التي نعيشها " .
وما يحسب للعريقي أيضاً ، استخدام اللحن والإيقاع الشعري بطريقة جعلتني مراراً أردد أبياته الغنائية بشكل ملحن . 
أراك في غيبتك من حول قلبي تطوف 
وانت العيون يا حبيب والعين في بك تشوف
أراك كف الهوى يضرب بقلبي دفوف
خلي حياتي ورود تناجي شوق القطوف 
أو كقوله :
مشتيش أني قاتك من الجعاشن
لا يأكله خادم ولا دواشن 
كذلك ظهرت لدى هذا الروائي المتجدد فنية عالية في السرد التصويري والوصفي للغة الجسد ونبرات الصوت وكأنك تشاهد الشخصية ماثلة أمامك .
ستطلقني علشان خادمة يا حبيب الدييبيببن ، تُفضل علي خادمة ! 
جلست على مؤخرتها تطلم ركبتيها والدموع تسيل على خديها ... الخ .
ليتك مت ولا رجعت تهينني بخادمة ، أسقيتني مع خادمة بكأس واحد يا حبيب الدييييييين .
أما عن الصراع : تقول ليندا كاوغيل في كتابها " فن رسم الحبكة السينمائية " الصراع يخلق التوتر وذلك يوقظ لدينا رغبة فطرية في مراقبة أشخاص آخرين يتقاتلون حتى النهاية ، فنحن نريد إرضاء الفضول الفكري لمعرفة من يربح ومن يخسر والاستمتاع بالمشاعر المرافقة من الرضا أو البهجة أو الشماتة أو جميعها معاً .
فزهر الغرام عاشت عدة صراعات .
صراع مع الذات تمثل بين زهر الغرام القديمة التي ظلت تذكرها بأصلها ومنبعها ، وبين زهر الغرام الجديدة التي تحدت ذاتها وأثبتت للجميع أن الخادم هو إنسان داخله فنان بالفطرة ، قابل للتعلم والتمدن وإدهاش الجميع .
وصراع بين زهر الغرام والمجتمع الذي تمثل بعبد الستار وتاج الدين وفاطمة وأم حبيب وثلج الصديقة الساخرة ، وأهلها الذين تشربوا مثل غيرهم معاني المخدمة وأصبح الذل لصيقاً بهم .
تفنن العريقي وهو يختم حبكته بعقدة صعبة  ومفاجأة من العيار الثقيل لزهر الغرام على لسان أمها وهي تموت : يا زهر الغرام أنت مش بنت زوجي مقرع .
وإن كان هناك من تحسينات بسيطة أحب أن أهديها للكاتب ، ولا تقلل من شأن هذا العمل العملاق والمختلف ، وهي كالتالي :
1- التواريخ والأعوام يعاني منها الكاتب امتداداً لروايته زربة اليمني ، فضبط الأعمار والتحدث عن المناسبات والتواريخ الوطنية يجب أن يكون محسوباً بدقة ، وقد وقع العريقي في عدة مزالق بهذا الخصوص .
- في مشهدها مع الزهرة السمراء في العشة قالت أن زوجها يعمل حمالاً في الميناء ، بعدما زاد طلب العمل فيه أثناء تولي الرئيس ابراهيم الحمدي .
بحسب مجريات الأحداث هي الان في عام 1982 كون ابنها في الخامسة وهم سافروا للحديدة في عام 1976 ، والرئيس الحمدي قُتل في 11/10/1977 . بمعنى هناك تجاوز لخمس سنوات .
- قال أيضاً في ص 158 و ص 160 أن زواجهما استمر 14 عام بينما تكرر كثيراً أن زواجهما استمر 15 عام كما قالت فاطمة في ص 114 
- في ص 179 صادق ذلك اليوم يوم إعلان الوحدة بين شمال الوطن وجنوبه .
أي في عام 1990 ، كيف هذا ونحن متفقين أن زواجهما في عام 1976 واستمر 15 عاماً ثم عادا إلى القرية ورحلا الى المدينة واكمل ابنها الثانوية بمعنى أن قصتها مع عيادة الدكتور سامح يفترض تكون بعد عام 1994 كأقل تقدير .
والعديد من هذه الهنات الرقمية التي أتمنى أن يدقق فيها الكاتب في الطبعات اللاحقة .
2- اللغة الشعرية للخادمة زهر الغرام وهي لم تتعلم بعد أي حرف ، فكيف لها أن تقول مثلها : 
ضحكت رغم حزني وقلت له إنه الحب يا حبيب ، فحبي لك كالبحر كما هو حبك لي .
3- ذكر في ص 185 أن المكرم علي بن مهدي الصليحي هو الذي حول الذي حول دولة بني نجاح إلى أخدام ، والأصح هو علي بن مهدي الرعيني الذي قضى عليهم ، كما ذكرت في بداية هذه القراءة.
4- عدم الدقة في الربط بين المعلومة وموسمها الصحيح ، حيث قال في صفحة 142 :
حصلت على خمسة براميل من حبوب الدخن ، واشتريت ماعز ، ولدت ضأنين بعد ثلاثة أشهر ، سعدت كثيراً وزادت سعادتي أن نصر حصل على المرتبة الأولى في أول ثانوي .
موسم الصراب والخير في تعز يكون في بداية شهر 11 ، وشهادات آخر العام الدراسي توزع كحد أقصى في شهر أغسطس كون العام الدراسي يبدأ في بداية شهر سبتمبر . 
5- تغير ضمير السارد في بعض المواطن البسيطة جداً كما في ص 88 وهو يسرد بضمير الأنا على لسان زهر الغرام ، إذا به فجأة يتحول ضمير السارد إلى الضمير الغائب والسارد العليم وهو يقول :
بعد أن تصالح الحب فيما بينهما ، والأصح فيما بيننا .
ملاحظات بسيطة وتحسينات أشبه بقبلات امتنان لهذا العطاء المتورد والجميل الذي منحنا إياه الدكتور العريقي بهذه الرواية الاجتماعية النادرة ، وهو يسلك مسلك السببية وينقلنا من حدث إلى حدث آخر ، تسبب به الحدث السابق .
رواية ملهمة جداً ومشبعة بقيم الإنسانية تتناول فيها ثيمات متعددة ، وثنائيات متضادة تجعل من الحياة أكثر جمالاً بهذا التنوع بين البياض والسواد ، والحب والكراهية ، والسلم والأمان ، والوحدة والفرقة .

 


29/9/2021 .

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24