الجمعة 29 مارس 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
العيد - ثابت العقاب
الساعة 15:41 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


هل تستطيع ان تستعيد ليلة من ليالي الشتاء الباردة والممطرة والسعيدة .. هل تتذكر وجهك ورائحة عطرك ومزاجك المتقلب في تلك الليلة ..
هل تتذكر لون السماء وصوت " الطلّاعات " وتكبيرات العيد وهي تتزاحم في مخيلتك و ابوك يعيد طلاء البيت وامك تنظف وتغسل وترتب وتنظر إليك وكأن العيد سيسطع من محياك ..
وأنت كلما سنحت فرصة تقف امامها تسألها متى تشترو لي ملابس  ؟ .. وعندما لم تجد اجابة شافية كنت تتمنى ان تأتي آلهة التراب وتعيد البيت أسوأ مماكان ..
كان الناس يستقبلون رمضان بفرحة كبيرة و يرددون الاناشيد الترحيبية والأهازيج المعبرة عن سعادتهم الغامرة بهذه المناسبة الدينية العظيمة ..
مرحبا ياشهر رمضان مرحبا شهر العبادة
مرحبا يا خير زائر مرحبا شهر السعادة 
و النساء ترحب برمضان على طريقتهن الخاصة والمميزة بصناعة اللحوح والكنافة و الحلوى و التى كان اشهرها  " الملبس " و " الملوز " و " شعر البنات "
لكننا نحن الأطفال كنا نستقبل رمضان بفرحة مختلفة نعود إلى اصل الاشياء حتى أنك تكاد ان ترى للابتسامة رغوة وللضحكة زبد ..
 كان العيد بالنسبة لنا معجزة ففيه نخلق من جديد وفيه نولد مرة أخرى وفيه نَحبّ ونُحبّ لذلك كنا نراقب هلال رمضان مع الكبار  ننتظر وصوله نستقبله بالفوانيس والزغاريد والاناشيد والدفوف التى تدعم وجودنا وتصنع فرحتنا وتخلق سعادتنا 
يارمضان يابو الحمام  *** وادي لابي قرعة دراهم 
كانت العشر الأول من رمضان تمشي ببطء شديد ولأنه لا العاب ولا مواقع تواصل فقد كنا نلجأ إلى القراءة  ومشاهدة مسلسلات رمضان و الفوازير والمسابقات والإعلانات التى كانت تزيد من حقدنا على هذا العالم الذي يحتكر الرفاهية في العواصم والمدن الكبيرة .. اما العشر الوسطى فكانت اشد واقسى خصوصا حين يذهب بعض اترابنا إلى إب وشراء كسوة العيد ما يزيدنا حسدا وقلقا وخوفا ان نتأخر ومن ثم يكون حظنا ما تبقى من الملابس ..
في العشر الأواخر من رمضان يتجلى العيد اكثر يقترب نشتم رائحته تبدأ ملامحة المبعثرة بالتكوين 
و لا يمكنني ان امر من هنا دون ان اذكر تلك المواقف الطريفة و المحرجة والذكريات الجميلة عندما كانت امي رحمها الله تلقي علي القبض متلبسا بتهمة الأكل في نهار رمضان وكعادتها كل عام تنسى او بالاصح تتناسى ..
اخر مرة اتذكر انني فطرت فيها كانت الوجبة حبة عصير مانجو عندما وجدتها لم استطع المقاومة سال اللعاب وانقسمت الحواس الخمس إلى قسمين مؤيد ومعارض فتدخلت وحاولت ان اقنع نفسي بتناولها بعد الفطور لكنني وقبل ان اكمل المفاوضات و جدتها تتجاوز الفم والحلق والبلعوم تسلم وتروي الظمأ وتبل العروق وتدخل شعبان برمضان وتؤجل المدفع يوما كاملا  ..
كلما كبرنا ابتعدنا عن الصورة الحقيقية أكثر  كلما فقدنا جزء من الابتسامة جزء من البراءة جزء من الفطرة جزء من النقاء جزء من الصدق جزء من الفرح لذلك لم نعد ننتظر العيد ولم نعد نخصص موسما للفرح ولا اياما للسعادة ..
أيها القارئ الكريم هل تساءلت يوما أين ذهب ذلك الشغف وتلك البهجة وذلك الفرح ؟
ام أننا نموت بشكل متدرج وعلى هيئة مراحل وفي كل مرحلة نخسر شيئا من الاحاسيس ومن المشاعر ومن الفطرة السليمة ؟
كان العيد عطاء ومشاركة في المأكل والمشرب والملبس  .. كان فرح بمساعدة محتاج واحتضان يتيم وحمل عاجز على الأكتاف وتقبيل شيخ كبيرا وزيارة مريض ومجابرة عريس ومواساة مفارق والاستماع إلى عاشق ذهبت الصبابة بحسه والهوى بحواسه والجوى بنضارته والعيون بلسانه والمواعيد بما يكسو جسده من اللحم ..
مازال للعيد في القرية نكهة خاصة وما تزال الذكريات طرية لتلك الصباحات الممتلئة بالبهجة والفرح ودخان القهوة وبنت الصحن والعسل وقبل الضيوف والعطور  والبخور  ..
ما زلت اتذكر كيف استيقظ في الصباح  كطفل ريفي مرهق من السهر والتعب حيث امضيت ثلث الليل الأول في لبس الملابس الجديدة والوقوف أمام المرآة الصغيرة والثلث الثاني في احتضانها و التفكير كم سيعطيني ابي نقود وكم سوف احصل عيدية وبكم اشتري  " طلّاعات " و بكم صواريخ وبكم عصير وبسكويت و من اقرض وممن اقترض في حالة حصل عجز في الميزانية ومتى اكون كريما ومتى اكون بخيلا  ..
الثلث الأخير من الليل عبارة عن نوم متقطع وكوابيس ان هناك من يسرق ملابسي وان هناك من يسرق العيدية من جيبي وان هناك من يوجه صاروخ يخترق الثوب الجديد وعندما ياتي الحلم الجميل وتمر سندريلا حافية القدمين من امام بيتنا تمتد يد امي لتصحيني فاقوم وابتسامة العيد والحب تملئ الزمان والمكان ..
بعد اخذ دش و لبس الملابس الجديدة اريد ان اقفز كي اقرح ولكن في كل سنة تبدأ القوارح وانا لم ارتدي ملابسي بعد ..
يرتدي ابي رحمة الله تغشاه ملابسه يبتسم يدخل يده في جيبه ببرود ومن دون عجل وفي كل عيد كان يضاعف لي المبلغ و نبدأ رحلة جديدة من السعادة والفرح نمحو من تلابيب القلب ماعلق بها مصادفة او ماكان من طرف واحد او استعدادا لقادم جديد ..
نرتب خانات الاصدقاء نفتح بريد الافراح القديمة نشتم رائحة الماضي وعبق الحاضر ننسى طرق الشتات واسواق الجراح و نتبادل كعك العيد وحلويات العيد و نخبأ همس العيد وقبل العيد وعطر العيد وضحكة العيد ..
أن تكون يمنيا معناه ان تقضي العيد برفقة اغنية واحدة وصوت واحد و فنان واحد علي بن علي الانسي رحمه الله الذي يشعرك ان لا عيد ولا عيديه ولا صيام يصح ولا زكاة تقبل الا اذا سمعت رائعته :
آنستنا ياعيد .. 
ان تكون ابيا معناه ان تقضي العيد في الطرقات والجبال والقري في زيارة ارحامك و اقاربك وتفقد احوالهم ..
ان تكون من نقيل العقاب معناه ان تبدأ من العشر الأواخر من رمضان التجهيز  للضيوف القادمين إليك او المستضيفين لك ..
اما حين تكون قادما من مدن العشق ويحيط بك الحزن من كل جانب ويمر العيد من فوق جراحك كمجنزرة عابرة للحدود في حرب لا شأن لك بها .. تمر صورتها بفستان جديد وعطر جديد وساعة جديدة وسياسة جديدة انت خارج حسابتها .. 
اما حين تكون بلا وطن وبلا حبيب وبلا اصدقاء فإن الأغاني تمر من الذاكرة كجنازة مجهولة ويتحول الفرح الى ثاني اوكسيد الكربون من الصعب استنشاقه ويتحول العيد الى طائر ينقر على النافذة ليذكرك فقط ان هناك عيد وان هناك فرح وان هناك سعادة ولكن عند اناس آخرين وفي بلد آخر ومن ثم يطير  ..

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24