الخميس 25 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
مرايا الروح - طارق السكري
الساعة 10:57 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


الجمال فطرة في النفس .. والفن الوسيط الذي يكشف لنا عن قدرة الفنان في تغيير المفاهيم والإحساس بالمتعة .
إن في أعماقك أصوات تستشرف في لحظات من صفاء الذهن التي تنفتح لها أبواب السماء أحياناً صوت الكون .. فترهف سمعك جيداً .
كأن أجهزة الاستقبال والاستشعار قد بدأت في الحركة والعمل .
لكنها حركة في عالم الشعور تعبّر ربّما عن مدى الإحساس بالحاجة الماسة إلى نفحة من نفحات الخيال الشعري .
إنه حنين غامض نوعا ما!
إن الله سبحانه هو المصوّر . خلق الكائنات على هيئة صور تدل على الطريق إليه . كما خلق الملكات الجمالية والذكاءات اللغوية التي يستطيع من خلالها الإنسان أن يتواصل مع العالم .
والشاعر الذي تجيش في صدره الأفكار والمشاعر فيقوم بتنظيمها من خلال الإيقاع ومن خلال الهيكل الفني من الصور والأخيلة التي ستبدو عليه .
إن الأقاويل الشعرية من تشبيه ومجاز واستعارة تترك أثراً في نفس المتلقي كما يقول أرسطو
تُحدث لذاذةً عقلية واهتزازا طربيا في النفس بصورة تلقائية .
ربما استطاع الشاعر أن يخاطب الأحلام والرؤى المكنونة في ضمائر الناس وأن يوقظها من سباتها وأن ينفخ في روحها الحياة ،فإذا هي صور حية تتكلم وتتنفس وتشعر. وكأن الشاعر يلقي تعويذة على مسامع القارئ وأحاسيسه ،فإذا الدهشة تعقد لسانه برهة فلا يقدر على الكلام ! حتى إذا كدّ القارئ ذهنه في النص لاستنباط معانيه المغلفة بالإيحاء والغموض ، ثم أخذ النص الشعري يكشف عن أسراره وجواهره ، تفتّحت أسارير القارئ فأبدا إعجابه وثناءه .
ولعل هنا مكمن قوة الشعر وطاقته وقدرته السحرية .. في أنه يعتمد الإيحاء لا المباشرة .
لكن القرآن الكريم في تصويراته وإشاراته البلاغية واللغوية له قدرة خلاقة .. فريدة في شد انتباه القوى النفسية دون اللجوء إلى شطحات الخيال بل يعتمد على ما في اللغة ذاتها من جمال خلاق مبتكر .
لقد دهش القرآن الكريم العرب أهل البيان والشعر وحاروا في أمره وما دروا أين مكمن السحر والقوة فيه ! فهو فيه من خصائص الشعر وليس بشعر وفيه من خصائص النثر وليس بنثر . إنه نظم فريد معجز .
ويرجع السيوطي في كتابه الإتقان معلّلاً سر تدفق العبارة القرآنية ونسق آياتها العجيبة في ما أسماه : باالانسجام . والانسجام في البلاغة العربية هو خلو الكلام من العقادة متحدّراً كتحدر الماء المنسجم، ويكاد لسهولة تركيبه وعذوبة ألفاظه أن يسهل رقة، والقرآن كله كذلك. قال أهل البديع: وإذا قوي الانسجام في النثر جاءت قراءته موزونة بلا قصد لقوة انسجامه، ومن ذلك ما وقع في القرآن موزوناً، فمنه من بحر الطويل : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ومن بحر المديد : ( واصنع الفلك بأعيننا ) ومن بحر البسيط : ( فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم ) ومن الوافر : ( ويخزهم وينصركم عليهم . ويشف صدور قوم مؤمنين ) ومن بحر الكامل : ( والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) . ومن الهزج : ( فالقوة على وجه أبي يأت بصيراً ) . ومن الرجز : ( ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلاً ) . ومن الرمل : (وجفان كالجواب وقدور راسيات ) . ومن السريع : ( أوكالذي مر على قرية ) إلى آخر ما قال .
إن القرآن الكريم طراز خاصٌ من التعبير . وهو إلى كونه كتاب هداية وإصلاح للإنسان والمجتمعات هو أيضا كتاب جمال يملأ النفس روعة ويستحوذ على ملكات الخيال فيصقل مرآتها برفق ويعيدها إلى سابق عهدها من النصاعة والبهاء .
( أو كظلمات في بحر لجّيٍّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب . ظلمات بعضها فوق بعض . إذا أخرج يده لم يكد يراها . ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ) .
إن الصورة البيانية في هذه الآية مثال دقيق يصور حالة الإنسان الداخلية من حيرة وتخبط وعمى .
يتخذ القرآن لإبراز هذه الفكرة الغائبة والتي لا تدركها الحواس صورة حسية حية متحركة مشاهدة للعيان فكأن الإنسان في ظلمات نفسه وكآباته وأمزجته المتقلبة نتيجة انسرابه في الحياة واعتراكه الأحداث والصراعات وما ينجم عن ذلك من مواقف وردود أفعال .. تجعل العقل فاتراً خافت الضوء .. فكأن الإنسان في ذلك يشبه البحر الذي تعتلج في أعماقه أمواج هائلة وظلمات بعضها فوق بعض . لا تكاد ترى العين فيها شيئا غير السواد الموّار المضطرب .
لكن تلك السدف الحالكة ، والأجواء الداكنة ، سرعان ما تزول وتصفو بذكر الله عز وجل فإذا مرايا الروح صافية مشرقة .
إن الصوت البياني البلاغي المبدع في القرآن صوت هاد وراشد . نور فكرة الهداية على نور القالب الفني الجميل .


ماليزيا . أوسان الأدبي

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24