السبت 20 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
شغف المسمع. واشتغالات الشاعر في تجربة الشيخ عبد الرحمن كبيرة - علوان مهدي الجيلاني
الساعة 13:10 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


إذا كان السماع والشعر وجهين فنيين لتجربة المسمع/الشاعر عبد الرحمن بكيرة، فإن لهذا المبدع الكبير وجهين فنيين داخل تجربته الشعرية نفسها:وجه منها:

يعبر عنه اشتغاله المباشر على نصوص شعرية لشعراء آخرين تشطيراً (تعجيزاً وتصديراً) أو تخميساً وتسبيعاً...

كما في هذين المجموعين اللذين نشتغل بمقاربتهما ((الوشي والتزهير في التعجيز والتصدير))، و((قلائد الدر النفيس في فن التخميس))

والوجه الثاني: يعبر عنه ديوانه الشعري (المخطوط) الذي أبدع قصائده بعيداً عن الانشغال المباشر بنصوص الآخرين..

ولذلك فإن مقاربة تجربة متميزة ومتنوعة مثل تجربة بكيرة تقتضي أن نتعامل معها وفي ذهننا كل العوامل المؤثرة فيها، والموجِّهة لها، مع المحاولة – قدر الإمكان- أن تكون المقاربة موضوعية ومنهجية، ومؤسسة على معرفة وعلم بعيداً عن الارتجال والاستعجال أو الأحكام المسبقة والجاهزة سواء كانت تلك الأحكام إيجابية السياق أو سلبية، وهذا ما سنحاول أن نمتثل له في اقترابنا المتنوع الزوايا والمحدد بجزء واحد من تجربة بكيرة الشعرية، ألا وهو اشتغاله على التشطير والتخميس والتسبيع مع التأكيد أن هذا الاقتراب المتنوع الزوايا –كما أسلفت- سيتنوع أكثر بحكم أن الاشتغال على بكيرة الشاعر سيقودنا دائماً إلى الاشتغال على بكيرة المسمع.

*************

التشطير: مصدر من شطر الشيء، تشطيراً أي نصّفه، وكل ما نُصّفَ فقد شطر ومن هنا جاءت التسمية.

المقصود بـ(التشطير): أن يعمد الشاعر إلى أبيات مشهورة لشاعر آخر (مشهور غالباً) فيقسم أبياتها إلى شطرين، يضيف إلى كل منهما شطراً من عنده، مراعياً تناسب اللفظ والمعنى، بين الأصل والفرع، ومبتعداً عن التكلف والحشو.. في التركيب.

أما (التخميس) فيقصد به أن يأخذ الشاعر بيتاً لسواه، فيجعل صدره بعد ثلاثة أشطر يبدعها هو، ويجعلها ملائمة لوزنه وقافيته، أي يجعله خامساً وقفلاً، من ثم.. لمقطع شعري يتكون من شطري البيت، الأصل والأشطار الثلاثة التي أبدعها لتضاف له، فيحصل من ذلك على خمسة أشطار، ومن هنا جاءت التسمية بـ(التخميس).. فإذا كانت الأشطار المضافة لشطري البيت الأصل أربعاً كان ذاك تسديساً، وإن كانت خمساً كان تسبيعاً، وهكذا.

*************

لم يعرف العرب قديماً التشطير بوصفه اشتغال شاعر على نص شاعر آخر يُدَاخِلُه بنصِّه.. ويضيف له بمقدار ما يجعله مستضيفاً لنصه.. ولذلك فنحن حين نفتش عن مصطلح (التشطير) في المعاجم وكتب البلاغة والأدب نجده عندهم يعبر عن شي آخر... غير ما نحن فيه... فهو عندهم جزء من فن البديع... وحين يجعل الشاعر كلاً من شطري البيت سجعة مخالفة لأختها، كما في قول أبي تمام:
تدبير معتصم، بالله منتقم

لله مرتقب، في الله مرتغب

فإن ذلك عندهم يعد تشطيراً، كذلك حين يقابل الشاعر مصراع البيت الأول بمصراع البيت الثاني كقول جرير:
وباسط خير فيكم بيمينه

وباسط شر عنكم بشماليا

فإن ذلك عندهم يعد تشطيراً أيضاً..وعلى ذلك جرى البلاغيون في القرون الثلاثة الأولى من الهجرة.
ومنذ مطلع القرن الرابع الهجري استبعد بعض النقاد والبلاغيين العرب مصطلح (التشطير) من تلك السياقات... واستبدلوه بمصطلحات أخرى، مثل (الترصيع) كما فعل قدامة بن جعفر( ) المتوفى سنة (337هـ) واسبتدله آخرون بـ(التفويف) كما فعل المظفر بن الفضل( )، المتوفى سنة (656هـ) وإن كنا في القرن التاسع نجد ابن حجة الحموي( )، المتوفى سنة (837هـ) يسميه (السجع المشطر) وهو يكاد ينفرد بهذه التسمية (على حد علمي).

*************

ثمة صعوبة في تتبع بدايات اشتغال الشعراء العرب بالتشطير.. ولكنه شاع كثيراً بين نهاية القرن الثامن الهجري/ الخامس عشر الميلادي، ومنتصف القرن الرابع عشر الهجري.. وإن كانت النخب الإبداعية في بعض البيئات الثقافية العربية قد ظلت تمارسه إلى نهاية القرن العشرين، كما في حالة مبدعنا الكبير عبد الرحمن بكيرة.
أما المخمسات فهي كثيرة في الشعر العربي، وقد أولع بها الشاعر العربي منذ فترة أقدم من الفترة التي أولع فيها بالتشطير.. وبعضهم كان يطلق عليها مصطلح (التسميط)( ) وإن كان مصطلح التخميس أكثر اختصاصاً بها لأنه أكثر دقة في دلالته... فالتسميط يشمل التخميس الشعري الذي نحن بصدده كما يشمل غيره، مثل: أن يصيّر الشاعر بعض مقاطع أجزاء البيت الشعري على سجع يخالف قافية البيت، كقول مروان بن أبي حفصة:
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا

أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا

وفي الشعر العربي (على الأقل منذ القرن السادس الهجري) نماذج شهيرة للتخميس مثل تخميس أسامة بن منقذ لقصيدة قيس بن ذريح:
كعهدك بانات الحمى فوق كثبها

ودار الهوى تحمى العدا سرح سربها

أقول وسمر الخط حجب لحجبها

سقى طلل الدار التي أنتم بها حَياً ثم وَبْلٌ صَيِّفٌ ورَبيعُ
|
وتخميس صفي الدين الحلي لقصيدة السموأل:
قبيح بمن ضاقت على الأرض أرضه

وطول الفلا رحب لديه وعرضه

ولم يبل سربال الدجى فيه ركضه

إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل

*************

على كل حال فإن التشطير والتخميس والتسبيع... وما يتبعها ستعد دائماً جزءاً من الاشتغال الشعري... أو الإبداع المؤسس على إبداعات واشتغالات سابقة أبدعها آخرون... وقد كان هذا يحدث دائماً في تاريخ الأدب العربي (الشعر خاصة).
الاشتغال على نص الآخر تم بشكل دائم من منطلقات متعددة وبأشكال مختلفة.. وقد عرفه العرب منذ الجاهلية.. من خلال ما عرف بـ(النقائض) التي بلغت ذروتها في العصر الأموي مع جيل الشعراء (جرير، الفرزدق، والأخطل، والراعي، وأمثالهم) حيث كان الشاعر يقوم بنقض نص لشاعر آخر ملتزماً الوزن والعروض والقافية والروي التي اختارها الأول.. وفي أثناء ذلك يخلق من معاني صاحبه معاني ينقضها –تماماً- فخراً وهجاء، وقد بلغت النقائض ذروتها في العصر الأموي.. وكان اشتغال الشاعر على شاعر آخر يناقضه يتجلى بشكل قوي في موازاة المعاني.. كما في توجيهها إما توجيهاً ينزاح بها لمصلحة الناقض على المنقوض، وإما توجيهاً يتم من خلاله تكذيب معاني الشاعر المنقوض أو قلب معناه الذي جاء به..
في الاتجاه نفسه عرف الشعر العربي اشتغالات أخرى أهمها المعارضات التي يحاكي الشاعر فيها شاعراً آخر في وزن قصيدته... وقافيتها وموضوعها مع الحرص التام على التفوق في الصياغة والصور والمعاني؛ إذ هذا هو الغرض الأساسي من المعارضات.. والتعرف عليه سهل من خلال أشهر أمثلته... أعني (بردة البوصيري) وأشهر معارضاتها كما كتبها البارودي ومن بعده شوقي.
ومن أنواع الاشتغالات على نص الآخر: المطارحات والإجازات والإخوانيات.... إلخ، وفي تلك الأنواع من الكتابة الشعرية التي شغلت حيزاً كبيراً من المدونة الشعرية العربية.. خصائص وسمات أهمها حضور النص المُشْتَغَل عليه (نص الآخر) في النص اللاحق.. وهيمنته عليه بنسب يتحكم فيها نوع الاشتغال... (نقائض أو معارضات، أو إجازات، أو مطارحات، أو إخوانيات، أو تشطيراً، أو تخميساً وتسبيعاً).. إلى آخر ما هنالك…باعتبارها مؤثرات نصية لا مناص للشاعر اللاحق منها.

*************

ولكن معاينة اشتغالات المسمع الكبير الشيخ عبد الرحمن بكيرة في ديوانيه ((الوشي والتزهير في فن التعجيز والتصدير))، و((قلائد الدر النفيس في فن التخميس)) ستقودنا إلى مقاربات فيها كثير من الاكتشافات والتأويلات الممتعة...فالمؤثرات النصية فيما أبدعه بكيرة لا تقتصر على النصوص الحاضرة التي تعامل معها تشطيراً.. وتخميساً وتسبيعاً.. بل تتجلى في كثير من المؤثرات التي ستبدو لنا على شكل صياغات يسهل التأشير على هوياتها الأولى في مرجعيات الشاعر الكثيرة بوصفها تناصات واضحة.. وتصعب أحياناً موقعتها بدقة في تلك المرجعيات؛ لأنها تصبح تضمينات لا واعية في النصوص. حيث تنداح ذاكرة الشاعر في موروث شعري واسع عاشره وخبره، وتعامل معه زمناً طويلاً...حتى ليظهر ما يبدعه إعادة إنتاج مبهرة تتفاعل فيها المؤثرات النصية الحاضرة (متمثلة في النص الذي يشتغل عليه) مع النصوص الغائبة وما أكثرها.. لنأخذ على سبيل المثال: تخميسه لقصيدة البارودي:
طربت وعادتني المخْيلةُ والكبرُ

وأصبحت لا يلوي بشيمتيَ الزَّجرُ

سيتجلى في هذا التخميس بشكل قوي حضور النصين الغائب والحاضر في نص المُخَمِّس (بكيرة)... كان الباردوي يشتغل على نص أبي فراس الحمداني الشهير:
أراكَ عَصِيَّ الدَّمْع شِيمتُك الصَّبْرُ

أما للهوى نَهْيٌ عليكَ ولا أمْرُ

وهو من أكثر النصوص إيحاءً على مدار تاريخ الشعر العربي الذي تلا موت أبي فراس بعد منتصف القرن الرابع الهجري...وحين اشتغل بكيرة على نص البارودي مخمساً له... كان يمتثل لهيمنة نص البارودي بشكل مباشر... وبشكل غير مباشر كان يمتثل لنص أبي فراس ... ولسائر النصوص التي اشتغلت به على مدار القرون الماضية معارضة وتشطيراً وتخميساً... فأشطار بكيرة الثلاثة في هذا المقطع من النص:
وناهيك بالحي الفتيِّ وهيفه

وإكرامه يوم السلام لضيفه

وعن حربه حدث ودع لضعيفه

تشتغل بوضوح على بيت البارودي الذي يليها:
إذا استل منهم سيد غرب سيفه

تفزعت الأفلاك والتفت الدهر

بمقدار ما تشتغل على معاني وردت في قصيدة أبي فراس المشار إليها.. وأبرزها قوله:
وحي رددتُ الخيل حتى ملكتهُ

هزيماً وردتني البراقع والخمرُ

وفي تخميسه لقصيدة السيد أحمد البكري البحريني( ):
يا عين هذا السيد الأكبر

وهذه الروضة والمنبر

يحضر النص الغائب بقوة تساوي، بل ربما تفوق حضور النص الذي يشتغل الشاعر بتخميسه، بل إن أشطار التخميس التي أنشأها بكيرة لتبدو وكأنها تجاري (تعارض) ترجمة الشاعر أحمد رامي لـ((رباعيات الخيام))، خصوصاً تلك المقاطع التي شدت بها أم كلثوم في خمسينيات القرن العشرين.
لننظر مثلاً كيف يحضر قول الخيام:
أولى بهذا القلب أن يخفقا

وفي ضرام الحب أن يحرقا

ما أضيع اليوم الذي مر بي

من غير أن أهوى وأن أعشقا

في قول بكيرة:
يا قلب ما أحراك أن تخفقا

وترقب الخل وأن تأرقا

فها قضيب الوصل قد أورقا

فاستبشري يا مقلتي باللقا
فمن رأى الأحباب يستبشر

وهذا في حد ذاته ترجمة لقول (جوليا كريستيفا): "النصوص لوحة فسيفسائية من الاقتباسات"..... وهو ما يعني أن النص الأدبي بوجه عام شعرياً كان أو غير شعري...هو نص ينبني ويكتمل (في عالم مليء بكلمات الآخرين) فأي نص إبداعي هو على نحو ما (تشكيل لنصوص سابقة ومعاصرة أعيدت صياغتها بشكل جديد، وليست هنالك حدود بين نص وآخر، وإنما يأخذ النص من النصوص الأخرى ويعطيها في آن)( ).

*************

في ضوء ما سبق فإن كل نص من نصوص بكيرة الماثلة بين أيدينا سيبدو متخلقاً من استجابة الشاعر لمؤثرين:
- مؤثر النص الذي يستجيب له مباشرة بالاشتغال عليه.
- ومؤثر النص الغائب الذي يتناص معه أو يعيد التخليق منه بشكل أو آخر.

*************

إن مقاربة تجربة مثل تجربة بكيرة في كتابة الشعر وفي التعامل مع عوالمه من خلال الاتجاهات النقدية الأكثر حداثة ستفضي بنا إلى لذة لا متناهية، نستمتع فيها باستكشاف آليات الإبداع في هذا النوع من الكتابة التي تتداخل فيها المؤثرات، وتزدحم فيها النصوص الغائبة الغير مقصودة بالنص المقصود، أعني النص الحاضر الذي يشتغل الشاعر عليه مشطراً أو مخمساً أو مسبعاً.
مثل هذه المقاربة ستفضي بنا أيضاً إلى تجاهل ذلك الحكم البالغ الحدّيّة...الذي نطلقه باسم الحداثة على هذا النوع من الإبداع.. منذ أن وصف (العقاد) كتَّابه بالعروضيين وجردهم من صفة الإبداع إطلاقاً.
مقاربة تجربة بكيرة وما يماثلها.. ستتم بعيداً عن حكم (العقاد) وأحكام من تبعوه بشكل أكثر تطرفاً إلى اليوم.

*************

وإذاً فإننا سنقارب تجربة بكيرة بوصفها تجربة كتابية تتم من خلال ثلاثة مؤثرات:
المؤثر الأول: ينشأ عن مفهوم العرب منذ القدم للعملية الإبداعية، فقد كانت عندهم مزيجاً من الموهبة المصقولة بالعلم، وكان من شروط تعلم الشعراء عند العرب، أن يُطلب من الشاعر في مرحلة التلقي حفظ كثير من أشعار غيره، خاصة من سبقوه ثم ينساها في مراحل لاحقة.. مراحل احتراف الكتابة والنضج فيها وبها.. وما أكثر الأمثلة على هذا الشرط في تاريخ الأدب العربي، وتراجم كبار الشعراء، ولعل أشهر الشواهد عليه ما ذكرته كتب الأدب والتراجم عن أبي نواس: (ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة منهن الخنساء وليلى، فما ظنك بالرجال)( ) وهذا مؤثر عام.
المؤثر الثاني: مؤثر خاص بـ(بكيرة) وأمثاله (ممن جمعوا بين إبداع الشعر وإبداع تقصيده سماعاً) فهو شاعر مسمع.. بل هو في المقام الأول مسمع ثم شاعر.. وبناء على ذلك فليس مطلوباً من مثله أن يحفظ لينسى، شأن الشعراء الذين لا يشتغلون بما يشتغل هو به... هو مطلوب منه أن يحفظ النصوص وأن لا يمل من التغني بها في كل مناسبة (هذا هو عمله الأول).
إذن معظم النصوص التي يحفظها الشاعر ستظل حاضرة في ذاكرته... وحين يختار نصاً منها.. ليشطره أو يخمسه ستكون النصوص المنسية (الغائبة) حاضرة في الخلفية البعيدة للحظة الكتابة.. فيما ستكون النصوص المحفوظة غائبة/ حاضرة بقوة في الخلفية القريبة الواضحة للحظة الكتابة.
المؤثر الثالث: هو النص الذي اختاره الشاعر ليقوم بتشطيره أو تخميسه أو تسبيعه، وهو نص يشكل أرضية لحظة الكتابة ومداميكها وجدرانها أيضاً، هذا النص سيهيمن بشكل كبير على الشاعر لحظة الكتابة، فهو سيجره إلى لغته جراً.. سيتحكم في إيقاعه النفسي وسيفتح له البؤر الدلالية.. فبمقدار ما سيقوم الشاعر بتوسيع مساحة النص من خلال الأشطار التي سيضيفها (ملتزماً بنفس الوزن) فإنه سيقوم بتوسيع مساحة المعنى والدلالات (إيجابياً) في نفس المنحى غالباً.. وهذا ما يؤكد عليه بكيرة في مقدمته لهذين الديوانين: (ولكنني خضت في فن من فنون الشعر أستعين فيه بقصيدة لأحد الشعراء الأعلام أشاطره فيها شطراً بشطر، حتى أنتهي من القصيدة على نفس الوزن والقافية بترتيب للمعاني التي وردت فيها) إذ أن الشرط الأساس لممارسة هذا النوع من الإبداع مراعاة تناسب اللفظ والمعنى بين الأصل والفرع.. وعدم مباعدة الأصل في الأفكار.. بتعبير آخر توسيع المعنى لا معارضته أو الخروج عنه –وإن كان استقراء نصوص لمبدعين كثيرين مارسوا هذه الكتابة- يثبت لنا عدم التزام الشعراء كثيراً بهذا الشرط (توسيع المعنى لا معارضته أو الخروج عنه)... وهذا سنجده عند (بكيرة) نفسه... فعندما خمس قصيدة شوقي:
سلوا كؤوس الطِّلا هل لامست فاها

واستخبروا الرَّاحَ هل مست ثناياها

وهي من أشهر القصائد التي غنتها أم كلثوم في شبابها... نجد بكيرة ينزاح بالمعاني الجزئية (معاني المقاطع) كذلك بالمعنى العام ليصبح موضوع القصيدة بمجموعها (الأصل الذي كتبه شوقي، وأشعار التخميس التي أضافها بكيرة) تتغنى بأم كلثوم... فهي ملهمة شوقي التي:
وافت أمير القوافي حينَ ناداها

فأفرغتْ في حشاهُ دَنَّ صهباها

فظَلَّ يهتِفُ في سُكرٍ وقد تاها

سلوا كؤوس الطِّلا هل لامست فاها

واستخبروا الرَّاحَ هل مست ثناياها

فهنا لا يحضر نص شوقي بل يحضر سبب قول شوقي لذلك النص.. حيث يقال إنه كتبه في أم كلثوم بعد أول لقاء له بها.
بعد هذا المقطع سنجد (بكيرة) يتماهى مع رغبة الانزياح الجامحة بمعاني النص الجديد... فإذا كان المقطع الأول رواية بلسان (المُشَطِّر) فإن المقاطع الأربعة التالية ستجيء على لسان شوقي:
فكم سُقيتُ كؤوساً غيرَ كافية

مِنْ راحِ ساقٍ فما كانت بشافيةٍ

لكنَّ من نازعتني كأسَ قافيةٍ

باتت على الرَّوضِ تسقيني بصافية

لا للسُّلافِ ولا للورد ريَّاها

باتت تُديرُ وتسقينا قراقفها

سكرى وخمر الصبا يثني معاطفها

والناي يبكي فتوليه عواطفها

ما ضر لو جعلت كأسي مراشفها

ولو سقتني بصافٍ من حُميَّاها

*************

فالعاشقون وكلُّ المعجبين بها

من حولها وهي تشدو يهتفون بها

كأنها والنَّدامى من جوانبها

هيفاءُ كالبان يلتف النسيم بها

ويُلفت الطيرَ تحت الوشي عِطفاها

على ملامحها يبدو ويرتسم

الحب والذوق والوجدان والألم

تشكو وتبكي فتُبكي وهي تبتسمُ

حديثها السِّحرُ إلا أنه نغم

جرت على فم داوود فغنَّاها

أما المقاطع الأربعة الأخيرة فتتولد معانيها مما هو معروف من تاريخ أم كلثوم المطربة العظيمة... حيث يستحضر الشاعر قصة حياتها وملحنها الشهير رياض السنباطي وأغنيتها الشهيرة أيضاً (حديث الروح) وفي أثناء كل ذلك يقدم لنا نصاً من أنجح وأجمل نصوص التخميس التي أبدعها... لولا نقطة ضعف بسيطة جاءت في الشطرة الثالثة من المقطع الرابع، وهي قوله:
كأنها والنَّدامى من جوانبها

فلو قال:
رأيتها والنَّدامى من جوانبها

لكان أفضل من جهة المعنى ومن جهة الاتساق مع ما بعده.

*************

تأسيساً على ما سبق يمكننا ونحن نتأمل حالة الشيخ عبد الرحمن بكيرة الشاعر المسمع أو المسمع الشاعر، الذي حفظ كثيراً من قصائد السابقين لا لينساها، بل ليظل عبر سنواته يؤكد حفظها ويستفيد من صوته البديع ليكون أكثر قدرة على الإصغاء إليها.. ويستفيد أيضاً من جمهوره ليعرف ويتبصر بأكثر مواضع التأثير في كل نص يقوم بتقصيده.
يمكن أن ننظر إلى اشتغاله بالتشطير والتخميس نظرة أكثر عمقاً وجدية من تلك التي اعتدنا النظر بها إلى تشطير شاعر ما... لا تتوفر فيه مواصفات وظروف بكيرة، ذلك أن بكيرة بسبب مواصفاته تلك.. والمؤثرات التي أسلفناها يدخل مع محفوظاته من أشعار السابقين في متواليات لا تتوقف من عمليات التلقي والاستعمال مع نفسه، وداخل نظام التواصل والتفاعل مع الجمهور.. ثم بعد ذلك أثناء الاشتغال على نصوص من تلك المحفوظات (تشطيراً وتخميساً)
أستطيع القول أن بكيرة وهو يشطر أو يخمس قصيدة ما.. يكون مهموماً بوظيفتين:
- وظيفة فنية: يشتغل فيها بجعل ما يضيفه للنص الأصلي في مستواه إبداعياً.
- ووظيفة تواصلية: يشتغل فيها بجعل النص الجديد المكون من الأصل وما أضيف إليه.. مقبولاً عند المتلقي (جمهور السماع) بمعنى أنه سيكون معنياً بذائقة السامعين، وبالبعد الاجتماعي لطبيعة تلقيهم القصائد المقصدة.
إنها وظيفة تتحدد بمتقضاها ازدواجية الشاعر/المسمع ووضعه وأحكامه ورموز فك شفراته.
كمثال بسيط تشطير بكيرة لقصيدة (ابن الفارض 576-632هـ):
(أشاهد معنى حسنكم فيلذ لي)

شهودي وتفكيري بكم وتأمُّلي

وترتاع نفسي كلما زادني جوىً

(خضوعي لديكم في الهوى وتذللي)

*************

(وأشتاق للمغنى الذي أنتم به)

وأبكي إذا ما هاجني صوت بلبل

وقلبي يهفو نحوكم بين أضلعي

(ولولاكم ما شاقني ذكر منزل)

*************

(فلله كم من ليلة قد وصلتها

على غفلة من لائميَّ وعذَّلي

ويوم قضيناه بمنعرج اللوى

(بلذة عيشٍ والرقيب بمعزل)

*************

(ونقلي مدامي والحبيب منادمي)

أغنيه ما يحلو به من تغزلي

بقيثارتي لحناً رقيقاً وشيقاً

(وأقداح أفراح المحبة تنجلي)

*************

(ونلت مرادي فوق ما كنت راجياً)

بتحقيق وصلٍ كان كالحلم منه لي

ولكنني لم أحظ منه بضمةٍ

(فوا طربا لو تم هذا ودام لي)

*************

(لحاني عذولي ليس يعرف ما الهوى)

وما الحكم فيه للإمام ابنِ حنبل

ولكنه فظ ولم يدر كُنْهَهُ

(وأين الشجي المستهام من الخلي)

*************

(فدعني ومن أهوى فقد مات حاسدي)

وقد وعد المحبوب وصلي بمنزلي

ووافى ووفّى بالعهود ووعده

(وغاب رقيبي عند قرب مواصلي)

ففي بيئة صوفية يحضر فيها السماع دائماً.. ولا يكاد يغيب عنها نَفَسُ ابن الفارض منذ سبعة قرون... يعرف الشاعر (بكيرة) أن جمهوره قد سمع هذه القصيدة كثيراً.. ويتوقع منه أن يكون قد انتهى تماماً من تفكيك الصور المجازية البلاغية التي تحفل بها.. وفهم أيضاً لعبة البديع ودوره فيها، كما يتوقع أن يكون المتلقي قد انتهى من فهم دلالات ومعاني النص الظاهرة، وأن عديدين من كبار متذوقي السماع يلامسون إشاراتها ورموزها.. ويغرقون أثناء السماع في بحار من التأويلات لا تتماثل ولا تقف عند حد.
ولذلك فهو حين يخمس أو يشطر قصيدة كهذه ليؤديها -فيما بعد- مراراً وتكراراً... سيكون في ذهنه:
أولاً: مماثلة ما يضيفه للنص الأصلي في لغته وبديعه وصوره.. بحيث لا يكون هناك لفظ أو تركيب لجملة يصدم الجمهور.
ثانياً: توسيع الدلالات والمعاني الظاهرة للنص الأصلي بشكل إيجابي يزيد متعة التلقي ويغني تجربة السماع، وذلك لن يتم إلا بعيداً عن التعقيد والإبهام، (أو المشاكلة والإحالة).
ثالثاً: إعانة الراسخين من جمهور السماع على تعديد الدلالات وتوليد التأويلات، وبالتالي تمكينهم من متعة أوسع وأكبر.

*************

ثمة زاوية أخرى يمكن أن نقارب من خلالها هذا النوع من الكتابة الشعرية.. أعني حين نفكر أن المعاشرة الطويلة لنص ما حفظاً وأداءً (سماعاً/ تقصيداً، إنشاداً حداءً) واحتكاكاً متواصلاً مع طرائق الجمهور في تلقيه، يحوله إلى عقدة أوديبية.. يحاول الشاعر / المسمع قتلها عبر التماهي فيها إلى حد ممازجتها بكتابته.. وجعلها نصاً يحسب له بمقدار ما يحسب لكاتب النص الأصلي.. ففي هذه الحالة سيسمع الجمهور أو ستسمع الحضرة الصوفية نصاً منسوباً للاثنين بنفس المقدار، وحين يؤديها هو فإننا سنسمع (عبد الرحمن بكيرة) يؤدي (تشطير عبد الرحمن بكيرة لقصيدة ابن الفارض مثلاً) وهنا سيكون الشاعر المشطر حاضراً في النص مرتين. مقابل حضور الشاعر الأصل.
في هذه الحالة ثمة ميزة أخرى لبكيرة هي حضوره المادي (الجسدي) وحضوره الفني (بصوته).
كما أن اسمه سيكون حاضراً في نسبة القصيدة المشطرة أو المخمسة إليه حين يؤديها غيره (المسمع عبد الله بابيس مثلاً) فهو سيقول لجمهوره: أسمعكم (تشطير بكيرة لقصيدة ابن الفارض).
ما يمكن أن نؤكد عليه بقدر كبير من اليقين في هذه المقاربة.. هو أن الشاعر المشطر أو المخمس.. لا يستطيع أبداً التخلص من تعالي النص الأصلي والتبعية له.
في أنواع الكتابة الشعرية الأخرى التي يتم فيها التناص مع نصوص سابقة كما في (المطارحات والنقائض والمعارضات وما شابه) تتحقق للنص اللاحق نسب واسعة من الاستقلالية عن النص السابق.. يتحكم فيها عادة قوة وضعفاً، موهبة الشاعر وحنكته، وقوة تجربته ومقدار ثقافته.. وعلى العكس من ذلك كل نصوص التشطير والتخميس والتسديس والتسبيع، لا يمكن إلا أن تكون تابعة بالمعنى الشامل للنص الأصلي.. بمقدار ما أرادت أن تكون جزءاً منه.. وهذا ليس عيباً لأننا حين نخضعها للمعاينة.. لا للمعايرة.. ستبدو تلك التبعية مجرد سمة تتصف بها هذه الكتابة، فإذا استعرنا بعض مفاهيم (رولان بارت) فإن الشاعر الذي يشتغل بالتشطير.. يحول النص الأصلي إلى أنثى يمثل الاشتغال عليه (تشطيره) نوعاً من اللذة.. لأنه على نحو ما ضرب من المناكحة (نَكْحُ الكلام بالكلام) لنتذكر كم كان يلح الشيخ محيي الدين بن عربي على اعتبار الكلمة أنثى لا تحلو ولا تتجلى إلا بموالجتها بكلام آخر.
يمكن حتى اعتبار التشطير لعبة يمكر فيها الكلام بالكلام… لعبة من التداخلات المنفتحة والمنغلقة في آن على حد تعبير (دريدا).

*************

إضافة إلى كل ما سبق... ستفضي بنا المعاينة إلى نتيجة أخرى، فالنص الجديد (المكون من النص الأصلي والتشطير أو التسبيع الداخل عليه). سيخرج من تحت يد الشاعر وهو يحمل أكثر من علاقة وأكثر من محدد إنتاج.
هناك محددات إنتاج النصوص الغائبة التي هضمتها ذاكرة الشاعر من عصور وقرون مختلفة ومن شعراء كثر، وهي النصوص التي كان الشاعر أثناء التشطير يتناص معها بوعي أو دون وعي.
وهناك محدد إنتاج النص الأصلي.. زمناً وشاعراً كمثال على ذلك هذا التشطير:
(لا آخذ الله بندك)

ومقلتيك وعقدك

وسامح الله دمعي

(فكم وشى بي عندك)

*************

(وقال عني بأني)

بالليل مثلت جعدك

|
وأنني دون قصدٍ

(شبهت بالغصن قدك)

*************

(فأنت تعظم عندي)

وإن أنا هنت عندك

وليس عندي عظيم

(أن يمسي البدر عبدك)

*************

(ولست والله أرضى)

أن يشبه التين نهدك

وإن قلبي يأبى

(أن يحكي الورد خدك)

*************

(فقاتل الله طرفي)

كم ذا ترقب وعدك

ويا رعى الله عهداً

(فكم به نلت قصدك)

*************

(فلا رعى الله قلبي)

لما هواك وودك

فيا له من وفيٍّ

(فكم رعى لك عهدك)

(فمن تُرى أنا حتى)

تسومني اليوم صدك

وأنت تعلم أني

(جعلت صدري مهدك)

*************

(وما عشقتك وحدي)

بل صرت في الحب وعدك

وآخراً غير أني

(بلى عشقتك وحدك)

*************

(وكم أطعتك جهدي)

حتى تجاوزت حدك

وكم عصيت وشاتي

(وكم تجنيت جهدك)

*************

(وبعد هذا وهذا)

فقد بلغت أشدك

وأسأل الله في ذا

(وذاك لا ذقت فقدك)

فالنص المُشَطّر للبهاء زهير وهو من شعراء القرن السابع الهجري... (توفي سنة 656هـ)... ومحدد إنتاجه النصف الأول من القرن السابع الهجري...
أما بعد التشطير فقد صار محدد إنتاجه مزيجاً من المحدد الأول، مضافاً إليه محدد إنتاج التشطير الذي أبدعه بكيرة على نص البهاء زهير... وهو مطلع القرن الخامس عشر الهجري (عام 1403هـ الموافق عام 1983م).
أخيراً فإن اشتغال بكيرة على النصوص التي بين أيدينا في (الديوانين) لا يؤشر على ذائقته التي استجادتها وأحبتها فحسب، كما أنه لا يؤشر على ثقافته الخاصة وروافده ومقروءاته فحسب، بل إنه أكثر من ذلك يؤشر على جزء كبير من القصائد المختارة –قديمة وحديثة- مما دأب المسمعون في تهامة على الشدو به في سماعاتهم خلال النصف الثاني من القرن العشرين.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24