الجمعة 29 مارس 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
مقاربات لسيرة الشاعر (الكثير) المختلف !! - محمد عبد الوهاب الشيباني
الساعة 14:21 (الرأي برس - أدب وثقافة)


(1)
 

ستون عاما (*) مرت على مولد واحد من ابرز اسماء الشعرية اليمنية الحديثة، واكثرها تأثيرا وعمقا. فصاحب "اكتمالات سين"  و"الحصان" و"مائدة مثقلة بالنسيان" و"رجل ذو قبعة ووحيد" و" رجل كثير" و"استدراكات الحفلة " و"على بعد ذئب" لم يزل حضوره الشعري باهيا ،وتأثيره واضحا علي التجارب الشعرية الشابة، التي انحازت لصوت الحداثة، لان هذه التجربة بثرائها وخصوصيتها الاسلوبية والجمالية اغرت ،ولم تزل، الكثيرين للاقتراب منها قراءة وفحصا وتأثرا، لأنها لم تتخشب لغة ،او تشيخ اسلوبا، بل ظلت تتجدد، وكان سريان الزمن في حياة الشاعر ،الذي مات وهو في اوج عطائه، كان لمد شاعريته بالتجدد اللافت، والذي يشير اليه التصاعد الجمالي في بناء النصوص وموضوعاتها، وبلغة مقتصدة متخلصة من الغنائية الفارطة والتقريرية . 
 

تجربة محمد حسين هيثم (عدن نوفمبر 1958ـ  صنعاء مارس 2007) تحيل الدارس و ترشده  ايضا إلى تجربته  النقابية في مؤسسة ذات صلة بشأن الكتابة ومقترباتها ،واعني هنا شغره لموقع أمين عام اتحاد الادباء والكتاب اليمنيين (2001ـ2005) ،حين كرس معظم اهتمامه لطباعة كتب اعضاء الاتحاد ومنتسبيه ، في تجربة لم يشهدها الاتحاد قبل فترته تلك او بعدها. بالإضافة الى تنظيمه لمهرجانين  للأدب اليمني بإمكانيات شحيحة تقريبا ،وكان رهانه على اسهامات الباحثين الشبان وطرقهم لموضوعات الادب اليمني (شعرا وسردا ونقدا وفنون شعبية)، في مساحات غير مكبلة بالمحاذير والممنوعات، التي تفرضها المهرجانات الرسمية
 ترؤسه للجنة التحضيرية  لـ "ملتقى  صنعاء الاول للشعراء الشبان العرب" الذي استضافته صنعاء في عام اختيارها عاصمة للثقافة العربية (ابريل 2004) ،كتجربة رائدة كسرت رسمية المهرجانات، التي ظلت تروج للأسماء الكبيرة اللامعة في سماء الكتابة ونجوميتها، مثلت اضافة لإسهامات هيثم  في التعريف  بالقصيدة الجديدة وتجاربها الشابة ، وكان هيثم يرى في الصوت التسعيني الشعري ، والذي عبر عنه بوضوح هذا الملتقى "مرآة حقيقية لكل الهزات الكبرى التي شهدها العقد الاخير من العقد العشرين وما تلاه، بدءا من سقوط الايديولوجيا مرورا بخرابات الاوضاع  العربية وتشظياتها ، وانتهاء بالتحولات الكونية التي تصنعها مخاضات العولمة وانقلابات الحياة الانسانية بشكل عام "
وقبل هذا يمكن معاينة محطة  اخرى، لها علافة بالسيرة التفافية  لهيثم، باعتبارها رافدا عزز تجربته الشعرية  واعني اشتغاله بالصحافة الثقافية، والذي بدأ باكرا  وتحديدا منذ كان طالبا في قسم الفلسفة في كلية التربية بمدينة عدن،  وبعد تخرجه  ،حيث عمل محررا ثقافيا في صحيفة "الثوري"  آنذاك طيلة النصف الاول من عقد الثمانينيات، قبل ان ينتقل للإقامة في صنعاء بعيد احداث يناير 1986 الدامية في جنوب اليمن.

 

وفي 1992 ، بعد ان صار باحثا في مركز الدراسات والبحوث اليمني، ترأس  تحرير مجلة " اصوات" ابرز مجلة  ثقافية صدرت في صنعاء في سنوات الوحدة الاولى. ومنذ المؤتمر الخامس لاتحاد الادباء والكتاب اليمنيين الذي احتضنته صنعاء ،عشية حرب صيف 94 تولى موقع الامين الثقافي ،فعمل على اعادة ترتيب وضع مجلة الاتحاد المركزية  "الحكمة"  ونقلها الى صنعاء حيث رأس تحريرها ابتداء من العام 1998، حيث انتظمت في الصدور بعد تعثرات طويلة، ومع  اعادة ،اصدارها تبني سلسلة مطبوعات لقصاصين وشعراء  صدرت باسمها .
 

هذا هيثم (الشاعر/ السيرة) الذى رأى القصيدة "ابنة للمجازفة، وربيبة المحاولة" اما الشاعر الحقيقي عنده هو مشروع داخل "المحاولة الدؤوبة للمغايرة "ورؤيته هذه هي استخلاص نابه لحالته كشاعر، ظل حتى اخر ايامه يجازف بدأب لكتابة قصائده المختلفة.
 

 

 (2)
قبيل وفاته  بأشهر  ( يوليو 2006)  قمت بنشر مادة  من جزئين عن تجربته الشعرية، اعتمادا على مجموعتيه الاولى والاخيرة اللتان صدرتا في حياته ،ونُشر  الجزء الاول تحت عنوان (الشاعر شاهد على اجيال ثلاثة)،والثاني (الشاعر حين يسدد فواتير حروبه الدائخة) و خلصت الى انها استلهمت من التجربة السبعينية صوت روادها التحديثي، وغدت فاعلة داخل بنية الصوت الثمانيني بلافتاته الكبرى، وصارت مؤثرة في الصوت التسعيني بمغامراته الاسلوبية المتعددة ، الذي عمل هيثم ،اكثر من أي مهتم أخر، بالتعريف بكثير من شعرائه وشواعراته .
ومما قلته حينها ان هذه التجربة  ولدت بين جيلين شعريين ،أحدثاً في موضوع الكتابة الشعرية وتقنياتها الجمالية العديد من المتغيرات الفنية والأسلوبية.. اما الجيلان المعنيان هما :

 

1ـ جيل السبعينيات ،والذي يعده الكثير من الدارسين ،المفصل الأهم في الحداثة الشعرية في اليمن ،وأصبحت تالياً تجارب الكثير منهم ، الذاكرة الحية للشعرية الجديدة في تشكلاتها الضاجة ،لأن المغامرات العديدة التي أقدمت عليها العديد من الاسماء المحسوبة على هذا الجيل، قامت على الانتهاكات الواعية للشكل الشعري المحافظ ،وخلخلة ثباته لصالح أشكال أكثر حداثة، بدأت تفرض نفسها بفوة داخل المدونة الشعرية العربية  المعاصرة.
 

أما العقد الحاضن لهذا الجيل بأصواته المؤثرة أمثال "عبدالرحمن فخري ـ عبدالودود سيف ـ حسن اللوزي ـ عبدالله قاضي ـ عبدالرحمن ابراهيم ـ زكي بركات " ،فكان هو الآخر الممر الواسع للخطوات الأولى لتجارب العديد من الشعراء الشبان آنذاك ،والذين سيحسبون لاحقاً على جيل الثمانينات الشعري ومنهم محمد حسين هيثم الذي "تقدم زملاءه كلهم في تكريس صوت متميز ضمن تجربة كتابة (قصيدة النثر) نوعا وكما فقد ضم ديوانه مطلع الثمانينيات تجارب ناضجة في قصيدة النثر التي تقوم على التكثيف والقصر واستضاف اليات السرد كالحوار والتسميات وتثبيت الامكنة ورسم الشخصيات" كما ذهب الى ذلك الدكتور حاتم الصكر.
 

2ـ جيل التسعينيات ، الذي سلط على أصواته المتعددة واستشكالاته القوية الكثير من الضوء من داخله ومن خارجه، لأنه سعى وبقوة للتخلص من جملة التراكمات التي أثقله بها جيلان شعريان سابقان عليه، فسعى هذا الجيل إلى التعبير عن حضوره بمغامرات متعددة ،منها الكتابة بدون مسبقات مرجعية وأبوية وبعيداً عن لافتات المشاريع الكبرى، والطفح الإيديولوجي الذي ظهر جليا في غنائيات الشعراء المحسوبين علي العقدين السابقين له. 
 

ومن هنا يمكن القول إن تجربة هيثم في الكتابة الشعرية ،هي واحدة من الشواهد الواضحة على ثلاثة أجيال شعرية تعايشت معها ،وعبرت عن اتجاهاتها الفنية ،بل وقُدمت في محطات مختلفة كتعبير ناضج لأساتذة الشاعر من السبعينيين ،ومجايليه من الثمانينيين وتلامذته من الشعراء التسعينيين في اليمن.. وقد تنبه الدارسون باكراً للصوت الذي حمله محمد هيثم منذ بداياته الباكرة في خارطة الكتابة في شمال البلاد وجنوبها ،وقد شجعهم على ذلك خصائص عديدة  عبر عنها هذا الصوت الذي بدأ يتلمس حضوره من اللحظة الغنائية العالية التي كان يقترحها جيل الثمانيات الشعري، لكنه في ذات اللحظة انتقل بالنص إلى مساحات جديدة من التجريب داخل الشكل ذي المنزع المتمرد. 
 

الاحتضانات الباكرة لهذا الصوت ورعايته من شاعرين عربيين مهمين أقاما في مدينة "عدن" مطلع ثمانينيات القرن الماضي وأعني "سعدي يوسف" و "جيلي عبدالرحمن" لعبت دوراً فاعلاً في توجيه هذه الطاقة نحو المغايرة منذ البداية.
 

(3)
ـ في مجموعته الشعرية الأولى ،والتي حملت عنوان «اكتمالات سين» ،صدرت عام1983م، سيجد الدارس أنها قدمت صاحبها في تشكلاته الأولى ،وبكل ما وقع من تأثيرات على صوته الخاص . فسنوات السبعينيات كمرحلة شعرية ضاجة ستظهر في المجموعة ،حاملة بما تماهى مع مزاجها  وموضوعاتها.
فالنص الذي حملت المجموعة الأولى للشاعر عنوانه وهو "اكتمالات سين" ـ نصاً صاخباً ععكس دالة الثمانينيين اليمنيين على الأقل  في اشتغالاتهم على المرموزات التاريخية ،والتماهي مع سير شخصيات وأماكن ورموز فاعلة في تاريخ اليمن. على نحو "علي ابن الفضل" و "منصور اليمن" «ابن حوشب» ومن الأماكن مأرب ،ومن الرموز اله اليمانيين القدماء «سين».
سيجد الدارس لهذه المجموعة أفكاراً كبرى وجهت شعراء تلك الفترة ومنهم  هيثم لمقاربة موضوعات رؤيوية بأساليب المغامرات النصيبة التي اقترحتها فضاءات الكتابة المفتوحة على افق الشعار الايديولوجي ودواله. 

 

اما في مجموعة «استدراكات الحفلة» ،وهي المجموعة الاخيرة التي صدرت في حياته عام (2002) ستكون تجربة الشاعر قد وصلت إلى نضجها الفني والرؤيوي مقدمّة في ذلك الشكل الفاعل في الخطاب والقادر على إيجاد صيغ حلولية بين أكثر الأفكار تباعداً في المنطق وتقريبها إلى مساحة مقبولة في التجانس الفني.. التمثيل لطرحٍ مثل هذا سينبني على التساؤل الاتي :
ما الذي سيجمع بين فيلم أمريكي باذخ حصد العديد من جوائز الأوسكار ،حال ظهوره قبل سنوات ،وأعني فيلم «إنقاذ الجندي رايان» وبين السنوات الأربعين التي يرثيها الشاعر ،حتى وإن قدمها بطرائق «التمويه» التي يقترحها العنوان، وبين «الاستعادات» المُرّة لجيش القتلة وهم يتقاطرون من حروبهم اللامرئية في عتمة «النوستالجيا».؟! الذي سيجمع بين هذه الانفلاتات هو عنوان جامع اسمه «حروب دائخة» 
تكشفّات هذا النص تمنح القارئ مساحات متعددة للإسقاط القرائي، إحداها ما يتصل بمقتربات السيرة التي أراد الشاعر وضعها في عتبّة التلقي، التي تبدأ مع استخدام ملفوظ «كل صباح» ،وما لحق به من فعل الاستمرار الذي ينجزه الشاعر بذات التكرار. سيرة لا تنبني على الحادثة وتموضعها في سياق الحكاية المشاعة، بل ستتحرك في المساحة الاكثر التماعا للكتابة ،والقادرة على استحضار سيرة المكتوب عنه باعتباره مجموعة من المرموزات الفاعلة لسيرة أي شخص بما فيها الأم ،التي تتحول إلى متراس بدو، لمجرد أنها تستعيد من بين الركامات حبلاً سرياً مهترئاً.

 

و في مجموعته الشعرية  الاخيرة التي صدرت بعد وفاته مباشرة (2007) وحملت عنوان "على بعد ذئب" ارادها ان تكون  تنويعا راقيا لاسلوبيات الكتابة الي اعتمدها في  مسيرته التي امتدت لثلاثة عقود. فالوزنية  فالمتخلصة من المفردات اللاشعرية  السائبة والزائدة ،حضرت الى جانب النصوص اللاوزنية المنفتحة على افق  الافكار الممسكة بأحجار الحكمة، وتقطيرا لتجربة الحياة بكل انوائها. والتي فد تكثفت في نهاية المطاف على هيئة ذئب  في الطريق الموحش ... ذئب ليس له سوى عواء الموت او مخالب الجحود ، اللذان تربصا به قبل تطأ قدمه عتبة الخمسين.
 

انها التجربة المميزة والاكثر اكتمالا في المدونة الشعرية اليمنية المعاصرة، والتي هي بحاجة الى مقاربات درسية اكثر عمقا، بعيدا عن انفعالات الذكرى وسيلان العاطفة.
 

(*) هذه المادة اعدت في الاصل بمناسبة الذكري العاشرة لرحيله  ـ مارس 2017 ونشرت تحت عنوان (ذئب ليس له سوى عواء الموت ... مقاربات لسيرة الشاعر محمد حسين هيثم ) في مجلة الفيصل مايو 2017

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24