السبت 20 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
آمنة يوسف في «بيت أبي» - عبد الحكيم باقيس
الساعة 15:45 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

حين يكتب ناقد سردي رواية أو سيرة ذاتية أو غيرهما من الأعمال السردية، فنحن أمام اشتغال خاص على الخطاب السردي وتقنياته، يرفعه أفق توقعاتنا من مخزون الخبرة النظرية والجمالية التي يمتلكها الكاتب، ومن الوعي بحساسيته الرؤيوية والقدرة على توظيف أساليب السرد في إنتاج الدلالة. هذا باختصار ما يحقق الدهشة والمتعة عند تلقي «بيت أبي» الرواية السيرذاتية الأولى التي كتبتها الناقدة الأكاديمية آمنة يوسف، وقد صدرت قبل أسابيع في بيروت.
 

تنتقل الكاتبة من خلالها من ضفة النقد الروائي إلى ضفة الإبداع في كتابة النص الروائي بمجدافين، أحدهما الخبرة النظرية والتطبيقية، والآخر التجربة الإبداعية في الكتابة الشعرية، لتجتاز في روايتها هذه مقولة إن النص الروائي الأول لا بد من أن ينطوي على شيء من السيرة الذاتية لكاتبه، إلى منطقة البوح وتثبيت الحياة في نص حافل بتفاصيلها ومعطياتها ومعاناتها، وإلى زمن كتابي جديد «زمن الكتابة الذاتية» ينطلق من مقولات ترى في أشكال كتابة الذات استجابة إبداعية في بيئات اشتعال المحن والصراعات والحروب، ليتحول دافع كتابة الحياة من مجرد دافع فردي خاص إلى دافع اجتماعي عام، أكان ذلك في شكل سيرة ذاتية مباشرة أو معيارية، أو في شكل رواية سيرذاتية.
 

ولعلّ الزمن الأدبي العربي القادم هو زمن البوح والرغبة في تأريخ الذات في ظل تحولات المشهد السياسي وعنف الواقع في بلادنا العربية، التي مرت بثورات وحروب مأساوية في عقدها الأخير، والذي لم تعد الكتابة الأدبية معنية بتشخيصه وكفى، وإنما في روايته من منظور ذاتي يتقاطع بعمق وبعنف كذلك مع ما هو اجتماعي وعام، ويعبر عن أزمات وصراعات الذات في معركة الدفاع عن وجودها في أتون هذه الحروب والصراعات التي أدت إلى دمار كلي. وكأن نخبوية الشعر والرواية غير قادرة على التعبير وحدها عن هذا العنف ومعركة الذات، فأصبحت أشكال الكتابة الذاتية هي الأفضية المناسبة للتعبير عن الذات، وتشظيها في مواجهة الحياة بوصفها أكثر الأشكال الأدبية جماهيرية، يتعاطى سواد مدادها الأدباء وغير الأدباء، بعيداً عما كان يلف ممارسة الحديث عن الذات من تهم النرجسية في الحقب السابقة، والتي أدت إلى الانصراف عن هذا اللون من الكتابة، وبسبب متغيرات واقعية جديدة لم يعد الحديث عن الذات ترفاً نرجسياً، بل استجابة ذاتية وموضوعية، وربما تواجه هذه الكتابة في كثير من الأحيان الرواية المزيفة لتاريخنا الحديث.
 

وبالإضافة إلى ذلك، لا يمكن استبعاد دوافع اختيار شكل الرواية السيرذاتية في تمرير خطاب الذات في «بيت أبي»، ما يتيح تجنب بعض الحساسيات في أثناء البحث عن حالات التطابق بين الكاتب والشخصية وخلق مساحة آمنة بينهما تصطنعها لعبة التخييل في الرواية، فقد كتبت على الغلاف مسمى «رواية»، ما يجعل القارئ يدخل في تعاقد أن النص الذي بين يديه هو نص روائي فحسب، يستند إلى خطاب تخييلي وليس إلى خطاب مرجعي، كما تفعل السيرة الذاتية.
 

وعلى الرغم من هذا التعاقد المخاتل يقدم النص من داخله تعاقداً مغايراً، تتضافر مكوناته كافة في الإحالة إلى المرجعي، مما هو خارج النص، إلى الحياة الخاصة للكاتبة آمنة يوسف، وليس «عائشة» بطلة الرواية التي تروي حكايتها وظروف نشأتها ومراحل من حياتها، منذ الطفولة إلى أن أصبحت أستاذة جامعية، والقصائد التي تحيل إلى تطابق شخصية عائشة مع المؤلفة «آمنة»، فهي جميعها نصوص شعرية منشورة في دواوين المؤلفة، وأسماء أفراد الأسرة والأقارب، وغير ذلك مما يكسر لعبة الإيهام الروائي.
 

تُقدم أحداث الرواية من منظور العلاقة بالأب، والأحداث المشتركة بين الساردة وأبيها، والتي لم تخل من الجرأة في البوح والتبرير والاعتراف بتفاصيل حياة الساردة في الطفولة والشباب والدراسة، والعلاقة بالأسرة، والتعليم الجامعي، وعلاقتها العاطفية بأستاذها في الجامعة، وكتابة الشعر والتعيين في الجامعة، والأزمة النفسية التي مرت بها، والانفعالات الداخلية، وغير ذلك مما نطل من خلاله، ومن على كتف الساردة، على جوانب من الحياة الخاصة لهذه الشخصية الأكاديمية. ويتخذ السرد في أثناء ذلك بنية سردية دائرية، تبدأ من لحظة موت الأب الذي أوشك على التسعين عاما إثر عملية جراحية فاشلة، وما أحدثه هذا الموت من تداعي في وعي الساردة (عائشة) التي تناجيه وتخاطبه وتتخذه مروياً عليه، تروي عليه تفاصيل حياتها باستخدام ضمير المخاطب، أو «سرد الأنت» الذي قل ما استخدم في السرد أو السير الذاتية، قياساً بضميرَي المتكلم «أنا» الأكثر شيوعاً وضمير الغائب «هو» مما درجت عليهما معظم السرود.
 

وتنتهي الرواية أيضاً بموت الأب، وأهم الأحداث والتحولات التي جرت بعد موته على صعيد الأسرة والوطن، ويتداخل فيها التاريخ الفردي المضطرب، بالتاريخ العام الأشد اضطراباً: ثورة الشباب وانتكاساتها وثورات «الربيع العربي» المجهضة، ويظهر الأب رمزاً للقوة وللقسوة التي وزعها على جميع أفراد الأسرة الثلاثة عشرة دون شفقة منه ـ كما تقول الساردة ـ إثارة المشاكل في البيت، والمعاملة السيئة للأم والتسبب في جنون شقيقها الأكبر، ومحاولة اعتراض رغبتها في الدراسة، أسوة بما فعله مع أخواتها، وتحويله هذه الرغبة كتعويض لها عن الزواج.
 

كما يظهر الأب نفسه ضحية لقسوة والدته وتأمر أخوته غير الأشقاء على ميراثه، وقسوته على نفسه كذلك، وتتأرجح في أثناء ذلك مشاعر الساردة متناقضة تجاهه بين الحب والتعاطف، والإدانة واللوم والإنكار على مواقفه، ما يجعل شخصيته تتخذ بعداً ترميزياً واختزلًا اجتماعيًا لفكرة سلطة الطاغية المتماهية مع سلطة الطغاة الساسة الراحلين.
 

كما لا يمكن تجاوز دلالة بيت اﻷب ورمزيته التي تحولت من السكينة واﻷلفة إلى الخلافات والشجار المستمر، وكأنما تقفز به الساردة في المستوى الرمزي من مجرد البيت العادي إلى فكرة الوطن اليمني (البيت الكبير)، الذي لا يكف أفراده عن الخصومات والصراعات، ذلك أن زمني الكتابة والقراءة يلقيان بظلالهما على صفحات النص.
 

وعلى الرغم من وجازة هذه الرواية السيرذاتية التي جاءت في نحو 125 صفحة، فهي حافلة بالكثير من القضايا والموضوعات، مما يمكن أن تكشف عنها القراءة النقدية في قادم الأيام، وليس مجرد مقال وصفي يعبر سطح النص، وقد صدرت هذه الرواية حديثًا عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» في بيروت.

 

منقولة من موقع العربي ...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24