الجمعة 29 مارس 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
حيث تسمع صوت ضحكتك في وجه الحرب.. سمسرة وردة بصنعاء ورواية طه - أحمد الأغبري
الساعة 19:10 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

يقطع مُحمّد أربعين كيلو متر بسيارته من الأطراف الجنوبية لصنعاء، وصولاً إلى باب اليمن وسط المدينة، وهناك يركن سيارته، ويترجل صوب “سوق الملح”، حيث يشتري خبزًا محمصًا بالجلجل، ويُكمل سيره صوب مقهى “سمسرة وردة”.. وهناك في أحد أزقة “سوق المدايع” (النارجيلة) يأخذ مكانه في المقهى، الذي يزدحم بالمرتادين منذ الساعة الخامسة صباحًا.

 

    وهو يتجاوز عتبة السمسرة يلوح مُحمّد بإحدى يديه مُحييًا أبناء “وردة”، الذين يقفون على منصة إعداد الشاي..وهُمّ بدورهم لا يفوتهم الالتفات إليه ليردوا تحيته قبل أن يمضي للداخل. لم يطلب مُحمّد شيئًا؛ لأنهم يعرفون طلبه المتمثل في بِن مفوّر (طريقة يمنية لإعداد القهوة بآنية تسمى الجزوة).. كمعرفتهم بطلبات معظم الزبائن الذين تربطهم بالمقهى علاقة خاصة تنتظم من خلالها زياراتهم لهذا المكان.

    يأخذك مدخل السمسرة إلى ممرٍ يُسلمك لفناء المقهى الذي نبتت عليه مقاعد وطاولات من رخامٍ وخشبٍ، يقابلها قسم عائلي مستحدث؛ استجابةً لتزايد الاقبال من الجنسين.

    ما يُنفقه مُحمّد في مجيئه ورواحه إلى، ومن هذا المقهى قد يتجاوز ألف ريال يمني؛ ليأتي إلى هنا لتناول قهوته وخبزه التقليدي المحمّص، والتي لا تتجاوز قيمتهما – جميعًا – (300) ريال.. وأمثاله كثيرون من الرواد، ممن يقصدون المقهى من مناطق بعيدة في صنعاء، لا لشيء، إلا لارتشاف القهوة بنكهة البن الأصيل، ومعها بضع نُكات تُبهج خواطرهم ويسمعون معها أصوات ضحكاتهم في وجه الحرب..ومن ثمّة يغادرون “كل في حال سبيله” كما يقولون باللهجة اليمنية.


    عُرفت “السماسر” في تاريخ صنعاء القديمة، لكن المراجع اختلفت في تحديد بدايتها. كانت تؤدي السمسرة (الخان) وظيفة أقرب لوظيفة الفندق والنُزل في الوقت الراهن مع بعض الاختلافات، منها أن السمسرة كانت تأوي الحيوانات مع البشر ممن كانوا يقصدون المدينة ويضطرون للمبيت فيها حتى قضاء حوائجهم بالإضافة إلى مَن كان يتم استضافتهم. ومن أشهر تلك السماسر ذاع صيت (سمسرة وردة)، بل ولكثرة مَن كان يقصدها أصبح اسمها مضرب مثلٍ في اليمن، لأي بيت يكثر الداخلون إليه والخارجون منه؛ فيُوصف من قبل الناس بـ “سمسرة وردة”.

     يعمل على هذه السمسرة، التي تحولت لمقهى، أشقاء من أسرة وردة. لا يعرف (طه) وهو أصغر هؤلاء الأشقاء، كم جيل تعاقب من عائلته على السمسرة، لكنه يعرف أن عائلته امتلكتها خلال حكم العثمانيين، كما لا يستطيع تحديد تاريخ معين، وإنْ كان يُرجّح أن عمرها يتجاوز القرنين.

     ما أنْ يرد اسم “سمسرة وردة” إلا ويصعد لشاشة التفكير، لدى الكثيرين، سؤال عن ماهية وردة كاسم للعائلة.. وهنا يقول طه، متحدثًا عن حكاية لقب عائلته: يعود الاسم إلى جدي من جيل سابق عاش خلال حكم الأتراك لليمن، وكان جدي حينها يعمل لدى أسرة من عِلية القوم بصنعاء، وكان لتلك الأسرة خادمة جميلة اسمها وردة، ويقال إن جدي قد فُتن بها لدرجة كان ما أن يُنادي عليها رب الأسرة؛ فإذا بجدي يُلبّي الطلب..وهكذا، وعندما ماتت “وردة” أصبحوا ينادون على جدي باسمها؛ وهو الاسم الذي ورثه أبناؤه واشتهروا به عندما اشتروا سمسرة بصنعاء لإيواء المسافرين؛ فأصبحت اسم سمسرتهم يحمل لقبهم، وهكذا تناقلت العائلة هذا اللقب حتى اليوم.


      ظلت السمسرة تُمارس عملها في ايواء المسافرين خلال حكم الأئمة، وعقب قيام الثورة اليمنية في 26 سبتمبر 1962م، وتواصل نشاطها الذي ظل يتراجع مع اتساع نشاط الفنادق، وتطور وسائل المواصلات وتراجع الحاجة لهذه (الخانات) في صنعاء القديمة، فانحصر نشاطها في إيواء المسافرين فقط، حتى بداية عقد التسعينيات.. يقول طه: منذ تلك الفترة تحول نشاط السمسرة إلى نشاط مقهى.. كنا نبيع الشاي والبُن للزبائن الذين كانوا يفترشون أرصفة الطريق أمام السمسرة، ومع تزايد المرتادين افتتحنا قاعة في فناء السمسرة بمقاعد وطاولات من الرخام والخشب مع استحداث قسم عائلات… ومع تطور نشاطنا افتتحنا فرعين داخل المدينة القديمة باسم “سمسرة وردة”.

    أثّرت الحرب الدائرة في البلاد بشكل لافت على مجالات العمل والإنتاج وأعطبت، بلا شك، الأداء في معظم القطاعات الحيوية..وهو ما يمكن لمسه في معاناة الناس وطريقة حياتهم، التي تراجعت مستوياتها كثيرًا مع ارتفاع مؤشرات الفقر والعوز والمرض..يتحدث طه عن تأثير الحرب على عمل المقهى، لكنه ليس التأثير الكبير؛ كون المقهى أشبه بالمتنفَّس الذي يلجأ إليه الناس في مرحلة صعبة؛ ولهذا فتأثير الحرب على المقهى يكاد – كما يقول – يظهر بوضوح في خوف الناس جراء عدم استقرار الأوضاع وما تتناقله الشائعات، وهو ما يؤثر سلبًا على إقبالهم في المساء، وهي أوقات تتضخم فيها مخاوف بعض الناس في بلدان الحروب عادة، وينوّه طه بما يلمسه لدى الرواد من معاناة ناتجة عن الحرب، وهي معاناة صار يشترك فيها معظم الناس في اليمن، وهو ما لمسناه في تراجع النشاط في الفترة السابقة من الحرب. ويستدرك: لكن منذ أشهر قليلة استعاد النشاط عافيته نسبيًّا، وعاد إقبال الناس على المقهى.

    وهنا لا بد من التنويه بخصوصية المكان التاريخية، نقصد “صنعاء القديمة”، ومعها خصوصية هذا المقهى، وهما ما يجعلان من سِحر الزيارة لهذا المكان تتجاوز – قليلاً – الظروف الراهنة للبلد.. لعلنا بهذا نُفسر خصوصية الإقبال على هذا المكان رغم معاناة الحرب.

     معظم رواد المقهى اليوم من البسطاء والمهنيين والرياضيين…من الفتيان الحالمين وأيضاً من الشيوخ العارفين، ممن صار لهم هنا مقاعد وأكواب تعرفهم.

  في هذا المكان، كغيره من أماكن يمنية لها خصوصيتها؛ ستشعر أن هذه الحياة    التي تدبّ وهذا الإصرار الذي يوقد حيوات الناس، هو ما سيطفئ نار هذه الحرب عاجلاً أم آجلاً وسينتصر لمظلومية الناس وللمستقبل…ومن أراد أن يتأكد؛ فاليمن تنتظره في كل مقهى لتحكي له حكاية مفادها إن كل هذا النزيف ستعقبه عافية بلاشك! هذا الأمل مازال أخضراً في نفوس اليمنيين رغم الخسائر.

منقولة من صحيفة اليمني الأمريكي ...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24