الجمعة 19 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
المخابرات الامريكية والأدباء - مسعود عمشوش
الساعة 16:41 (الرأي برس - أدب وثقافة)



مجلة «حوار» والـ«C.I.A» مثلًا!
ماجد حبته صحيفة الدستور اللبنانية 2 ابريل 2017
لا يزال هناك من يصفون «توفيق صايغ» بأنه أحد مؤسسى حالة ثقافية جعلت من «بيروت» عاصمة لما يزعمون أنه «الضمير العربى الحديث»، ويغيظك أن يحصل المذكور على تلك الصفة لأنه أصدر «مجلة حوار»!

 

صايغ (1923 ــ 1971) شاعر فلسطينى، مولود فى جنوب سوريا، وعاش فى طبرية الفلسطينية فترة من الوقت، قبل أن ينتقل إلى بيروت التى تخرّج فى جامعتها الأمريكية، سنة 1945، وفى 1950 حصل على منحة دراسية من مؤسسة «روكفلر» الأمريكية، أتاحت له إكمال دراسة الأدب الإنجليزى فى جامعات «جونز هوبكنز» و«برنستون» و«هارفارد»!
 

فى مذكراته «ذكريات فى الترجمة»، كتب «دنيس جونسون ديفز»، أحد أشهر مترجمى الأدب العربى إلى الإنجليزية، أن «جون هانت» ممثل «منظمة الحرية للثقافة» قال له فى أوائل الستينيات إنه يفكّر فى إصدار مجلة ثقافية باللغة العربية وإسناد رئاسة تحريرها إلى يوسف الخال، صاحب مجلة «شعر»، إلا أن «دنيس» اقترح عليه اسم توفيق صايغ، وكانت تلك هى «مجلة حوار»: مجلة ثقافية، صدرت سنة 1962، ومن كتاب «مذكرات توفيق صايغ بخط يده» لمحمود شريح نعرف أنه قضى الفترة الممتدة بين 7 أبريل و31 يوليو 1962 بين بيروت ولندن وباريس، لتأسيس المجلة.
يكتب «صايغ» فى مذكراته فى 21 يونيو: «مكتوب من بدر (شاكر السياب) يطلب فيه النقود التى اقترحت المنظمة إعطاءها له للتطبيب، كى يذهب للعراق أو يحضر عائلته لبيروت»، والمنظمة المشار إليها هى «منظمة الحرية الثقافية» التى انتشرت فى خمس وثلاثين دولة، وتغير اسمها سنة 1967 إلى «الاتحاد الدولى للحرية الثقافية». فى المذكرات، تقرأ أيضًا تفاصيل عن تبويب المجلة واقتراحات المشاركين فيها، وعن حرصه وحرصهم على أن تكون المجلة مختلفة ومميزة وصاحبة دور، وكذا الصيغ المقترحة للتواصل مع الكتّاب والأدباء العرب، فيكتب فى 9 يوليو 1962: «كتبت إلى رينيه حبشى، مولود معمرى، آسيا جبار، عبدالرحمن بدوى، عبدالقادر القط ونجيب محفوظ». وفى 30 يوليو يكتب عن ذلك التنافس بين المجلات الثقافية التى كانت تصدر فى ذلك الوقت: «خصمنا ليس الآداب بل أدب أنسى (الحاج) صديق مخلص لى ودومًا يدافع عنى تمامًا».

 

وبعد خمس سنوات، توقفت المجلة بعد أن أثيرت شبهات كثيرة حول مصدر تمويلها، وبعد انتقادات وهجمات عنيفة شنها عليها مثقفون عرب اشتبهوا فى دور مريب تلعبه «منظمة الحرية الثقافية».
يكتب توفيق صايغ فى مذكراته: «لا عدد 28، أنا أقفلت المجلة، دفعت مرتبات الموظفين، وأهدى الأثاث إلى مؤسسة ثقافية أحبها، عصرًا حضرت بيانى للصحف». وصباح الأحد 21 مايو 1967 نشرت جريدة «النهار» اللبنانية البيان الذى أعلن فيه إيقاف «مجلة حوار»، تلمس فيه سخطًا على الأمريكيين ومخابراتهم ومؤسساتهم الثقافية، وفى البيان يعتب «صايغ» على الأوساط الثقافية العربية التى أساءت إليه ونالت من سمعته الوطنية دون أن تتحرى الحقائق، ويهاجم المثقفين الذين هاجموه بفعل الغيرة والتنافس. ولم تمض أسابيع على إيقاف المجلة، حتى ودّع «صايغ» بيروت ذاهبًا، فى أكتوبر 1967، إلى الولايات المتحدة محاضرًا فى جامعات برنستون وجونز هوبكنز وشيكاغو وتكساس وكاليفورنيا وهارفارد، وصباح الثالث من نوفمبر 1971 فاجأته أزمة قلبية وهو فى مصعد العمارة التى يسكن فيها.

 

أعد قراءة ما سبق، مرة أخرى، أو اثنتين، قبل أن تقرأ معى فى كتاب «الحرب الثقافية الباردة»، للكاتبة الإنجليزية «فرنسيس ستونر سوندرز»، أن «منظمة الحرية الثقافية» أسستها المخابرات المركزية الأمريكية (C.I.A) لتتولى الجانب الثقافى فى الحرب الباردة، ورصدت لها عشرات ملايين الدولارات وللمشروعات المتصلة بها، وكانت بمثابة وزارة ثقافة لأمريكا، قامت بتعبئة الثقافة كسلاح فى الحرب الباردة، مستخدمة جماعات مستقلة وجماعات أصدقاء فى اتحاد غير رسمى، عبارة عن تحالف مقاولات بين مؤسسات خيرية ومؤسسات تجارية، وبين أفراد يعملون مع المخابرات المركزية لتقديم الغطاء وقنوات التواصل لبرامجها السرية والأنشطة الداعمة للسياسة الخارجية الأمريكية، بما فى ذلك التخريب والتدمير وتدبير الانقلابات والاغتيالات ومساعدة الحركات السرية والمعارضة السياسية فى الدول المعادية للولايات المتحدة.
 

وما دام الشيء بالشىء يُذكر، أشير إلى أن مجلة «شعر» التى كان يصدرها يوسف الخال، الذى وقع عليه اختيار المنظمة فى البداية لإصدار مجلة «حوار»، كما أشرنا فى البداية، كانت تموّلها أيضًا المنظمة نفسها التى كانت أيضًا تدعم ماليًا ومعنويًا عددًا من ألمع الأسماء، منهم جان بول سارتر، برتراند راسل، ستيفن سبندر، وجورج أورويل، والأخير قام بتغيير بعض أحداث ونهايات رواياته بناء على طلب المنظمة! وما قد يثير دهشتك، هو أن «مجلة حوار» منحت جائزة سنة 1965 ليوسف إدريس وقَبِلها فى البداية، ثم أعلن رفضه له، وكان سبب الرفض هو مكالمة تليفونية تلقاها من سامى شرف سكرتير رئيس الجمهورية جمال عبدالناصر للمعلومات والمتابعة، نقل له فيها سؤال الرئيس: هل يمكن أن تقبل جائزة من مجلة تموّلها المخابرات الأمريكية المركزية؟ وتقديرًا لرفض يوسف إدريس تلك الجائزة المشبوهة، منحه الرئيس جمال عبدالناصر قيمتها المالية. غير المقاربات والقياسات والاستنتاجات والاستخلاصات التى قد تخطر على بالك، فما دفعنى إلى استرجاع ما سبق، هو ذلك الغلاف البديع الذى صممه المبدع حسين جبيل للطبعة الجديدة من كتاب «الحرب الثقافية الباردة» الذى تركنا مترجمه طلعت الشايب منذ أيام.
رحم الله «الشايب»، ورحمنا من أمثال «توفيق صايغ".

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24