الخميس 25 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
فن الوصايا عند الحبيب علي بن محمد الحبشي
قراءة في كتابه (مجموع وصايا وإجازات) - مسعود عمشوش
الساعة 14:11 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)




الوصية الأدبية نصٌّ نثريٌّ يضع فيه المؤلف خلاصة تجاربه في الحياة ومجموعة من الحكم والأمثال من أجلِ حضِّ المتلقي على فعل الخير وتجنُّب الشرِ والوقوع في الأخطاء. وتختلف الوصية الأدبية، التي تسعى إلى نقل الخبرات الإنسانية من جيل إلى جيل ومن السلف إلى الخلف، عن الوصية الشرعية التي يكتبها الإنسان لذويه ليبيّن لهم الطريقة التي يريدهم اتّباعها بشأن تركته بعد موته. وفيما يتعلق بالمحتوى الاجتماعي والسياسي والديني والشكل الفني تقترب الوصية الأدبية من الخطبة إلا أنها في العادة تُوجّه إلى متلق بعينه بعكس الخطبة التي تلقى على عدد كبير من المستمعين.
 

وإذا كانت الوصايا قد وضعت في البداية بشكل عفوي لتلبِّي ضرورات اجتماعية أملتها ظروف الحياة فأنها سرعان ما غدت فنًّا أدبيا يسعى من خلاله الأدباء ليس لنقل تجاربهم وعبرهم فقط، بل كذلك من أجل استعراض قدراتهم الأدبية. فالوصية الأدبية تتميّز أيضاً بحسن صياغتها. وتعتمد أساساً على أسلوب خطابي يوجهه الموصي مباشرة بضمير المتكلم: أنا، إلى المتلقي المحدد بضمير المخاطب المفرد: أنت. وتعتمد الوصية الأدبية أساليب الطلب من أمر ونهي واستفهام ونداء وتمن. ولإثارة عزيمة المتلقي وعاطفته تميل الوصية الأدبية إلى تكثيف الإيقاع الصوتي عن طريق اعتماد المحسنات اللفظية وأسلوب السجع والتوازن.
 

ومن المعلوم أن الوصايا تُعد أحد الفنون الأدبية التي يتميّز بها أدبنا العربي القديم، والتي تشغل مساحة مهمة في كتب التراث. فهناك عدد كبير من الوصايا التي اشتهرت في الأدب العربي قبل الإسلام؛ منها وصايا ذي الإصبع العدواني، وزهير بن جناب الكلبي، وعامر بن الظرب العدواني، وحصن بن حذيفة الفزاري، ووصية إمامة بنت الحارث إلى ابنتها أم إياس عند زواجها. وحَفَلَ العصر الاسلامي بالوصايا الأدبية؛ فالرسول والخلفاء لهم كثير من الوصايا. كما ازدهر فن الوصايا في المغرب العربي لاسيما في الأدب الأندلسي، حيث اشتهرت بشكل خاص وصايا لسان الدين الخطيب وأبي مروان الجزيري.
 

ولأهمية فن الوصايا في الأدب العربي القديم كرّس له عدد من الباحثين والنقاد عددا من الدراسات والرسائل العلمية قاموا فيها بتصنيف الوصايا وتحديد خصائصها الموضوعية والفنية. وبينما ذهب الباحث حذيفة عبد الله عزام في رسالته حول (الوصايا في الأدب الأندلسي) إلى تقسيم الوصايا إلى: اجتماعية وسياسية ودينية، قام الدكتور علي حسين محمد التمر، في دراسة له عن (الوصايا في صدر الإسلام)، بتقسيم الوصايا قبل الإسلام إلى: وصايا الملوك إلى أولياء العهد ومن يقوم مقامهم – وصايا الحكماء إلى أبنائهم – وصايا الآباء إلى أبنائهم – وصايا الهداء (الزواج) – وصايا السفر والمسافرين – وصايا الحرب.
 

ولا شك أن تراجع استخدام المحسنات البديعية وأسلوب السجع في النثر العربي الحديث بشكل عام منذ نهاية القرن التاسع عشر قد أدى إلى اختفاء فنون النثر العربي التي اعتمدت السجع والبديع، وبشكل خاص فن المقامات وفن الوصايا الأدبية. ومع ذلك نلاحظ أن هناك عددا من الكتاب في صنعاء وحضرموت قد استمروا في ممارسة الكتابة في هذين الجنسين. وبما أننا سبق أن قمنا في عام 1989 بدراسة المقامات اليمنية، فقد رأينا أن نتناول هنا بعض سمات الوصايا التي كتبها الحبيب علي بن محمد الحبشي العلوي الحضرمي، والتي تضمنها كتابه (مجموع وصايا وإجازات)، الذي قام بطباعته حفيده أحمد بن علوي بن علي الحبشي في مطبعة كرجاي بسنغافورة عام 1990.
 

 

من خصائص وصايا الحبيب علي بن محمد الحبشي:
بما أن وصايا الحبيب علي الحبشي تدخل في إطار الوصايا الدينية التي يركز مؤلفها على حض الموصي إليه على امتثال أوامر الله والابتعاد عما نهى عنه، والتزام الطريق القويم فمن الطبيعي أن يكثر فيها الاتكاء على ما جاء في القرآن والحديث من توجيهات في شؤون الحياة. ولذلك يكثر فيها التناص مع القرآن والسنة.
 

ويحرص الحبيب علي الحبشي على بدء وصاياه -مثلما يبدأ الخطيب خطبته- بالبَسْمَلَة (بسم الله)، والحمدلة (الحمد لله)، والصلاة والسلام على رسول الله. وعادةً ما يضع تحت البسملة آية أو أكثر من القرآن بعد البسملة مباشرة، ويحدث ذلك بانتظام حتى الوصية السابعة، وبعدها لا نجد الظاهرة إلا في بعض الوصايا. والآية الأكثر تكرارا هي (وربك الفتاح العليم)، لكن الوصية الأولى تبدأ بـ(إنا فتحنا لك فتحا مبينا. ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر). ويبرز التناص القرآني كذلك وبكثرة في ثنايا الوصايا. فالوصية الثالثة والسبعين، مثلا، تتضمن واحدا وثلاثين شاهدا من القرآن.
 

ويكثر في وصايا الحبيب علي الحبشي كذلك التناص مع الحديث النبوي. وعادة ما يتجاور التناص مع الحديث والتناص القرآني. ففي الوصية نفسها نقرأ: "أول ما يبدأ به المريد في توجهه إلى مقصوده الأعلى: تصحيح التوبة، وهو أول باب من أبواب اليقين. وقد ورد في القرآن والسنة بالحث عليهما، قال الله سبحانه وتعالى (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا). وقال تعالي (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين). وكما ذكر الله التوبة في كتابه وحث عليها، ووعد عليها جزيل الثواب، وهي باب عظيم في الدخول إلى حضرة القرب. قال رسول الله [ص]: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له). وإذا أحب الله عبدا لم يضره ذنب. ثم تلا: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين). قيل يا رسول الله: ما علامة التوبة؟ قال: الندامة. وقال: رسول الله [ص]: (ما من شيء أحب إلى الله من شابٍ تائب)". ص335-337


كما يلجأ الحبيب علي الحبشي في وصاياه إلى التناص مع الشعر؛ من شعره ومن شعر غيره. ففي سياق حديثه عن الفهم وجدلية الخفاء والتجلي في الوصية الثالثة والسبعين يكتب: "والفهم واسعة أطرافه، ومن شدة الظهور الخفاء، وعن ذلك يترجم لسان ذوقي في قصيدة لي مطلعها: 
ظهرت والظهور عين الخفاء شمس علم في حسنها والضياء
وتجلت عن معنى سر التجلي وغريب الأسرار تحت الخباء". ص348
ويكثر الحبيب علي الحبشي من الاستشهاد من شعر غيره، لاسيما من شعر المتصوفين مثل ابن الفارض الذي يستشهد ببيته الشهير:

 

أنا من أهوى ومن أهوى أنا *** نحن روحان حللنا بدنا
أو من شعر أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الرحمن بن عيسى بن عطاء الله السكندري شيخ إحدى الطرق الصوفية في مصر:
"وكنت قديماً اطلب الوصل منهم فلما اتاني الحلم وارتفع الجهل
تبينت أن العبد لا طلب له فإن قربوا فضل وإن بعدوا عدل".

 

ولا شك أن مؤلف (سمط الدرر) يدرك المستوى الفني لوصاياه، لهذا فهو لا يتردد في وضع عناوين لثلاث منها. فالثالثة أسماها: (دلالة الرفيق على سواء الطريق)، والرابعة: (ودائع الأسرار من فيوضات الأسرار)، أما الوصية الأولى فقد وضع لها العنوان الطويل الآتي: (تحفة الأحباب بنفثات من فتح الكريم الوهاب وإن شئت قلتَ منحة الكريم الوهاب لأخص الخواص من الأصحاب مرسلة من ضعيف الحال مكسوف البال العبد الفقير إلى كرم الله الخبير راجي فضل الله المنشي علي بن محمد بن حسين بن عبد الله بن شيخ الحبشي علوي لأخيه ومحبه الصالح أحمد بن عبد الله مكارم نفع الله الكل بها وبما فيها وسقاهم من خندريس ساقيها). ص1
 

وبعد العنونة والبسملة والحمدلة يشرع المؤلف في شرح سبب كتابته للوصية، وعادة ما يكون السبب طلب وإلحاح من الموصي إليه وربما مناسبة الطلب التي تكون في الغالب: السفر. ففي بداية الوصية التاسعة التي كتبها إلى صاحبه عبد القادر بن أحمد بن محمد السقاف، يقول: "ثم أنه لما تحققت الصحبة الأكيدة، ولم تزل طوالعها سعيدة، بيننا وبين أخينا عبد القادر المذكور، الذي سعيه إن شاء الله مشكور، تشوقت نفسه الأبية أن يدخل البيوت من أبوابها، وأن يقصد المسببات بمسبباتها، فقام بباله أن طلب من الفقير الإجازة والوصية، كما هو شأن السالكين في الطريق السوية، من خواص البرية، حسن ظن منه أني من العير والنفير، ولم يدر أنه ليس لي في هذا الشأن فتيل ولا نقير. فتوجه إليّ توجه الطالب المريد، وطلب مني أن أرقم له في هذه الطروس ما فتح به العزيز الحميد. فلم يسعني لما له عندي من خالص الوداد إلا موافقته على ما أراد".ص55
 

ومن أهم سمات وصايا الحبيب علي بن محمد الحبشي: اقتران الوصية بالإجازة. والإجازة هي أن يأذن الشيخ المجيز لطالبه المجاز له بالنقل عنه والاستناد إلى أقواله. ولا تمنح الإجازة إلا لماهر في صنعته، أو متقن لمعارفه، وينبغي للمجيز (أو من أنابه) أن يكتب الإجازة، أو يتلفظ بها أمام شهود. وقد قلـّت أهميتها مع انتشار الطباعة. ومعظم وصايا الحبشي تحتوي إجازة للموصي إليه. وفي كثير من الحالات تأخذ الإجازة أبعادا أهم من أبعاد الوصية. 
 

ومن اللافت أن الحبيب علي الحبشي يجعل من الإجازة مناسبة لتقديم بعض مشائخه، مثلما فعل في الوصية الخمسين التي كتبها لمحمد بن سالم السري الذي طلب منه تعريفه بكيفية التعامل مع الأساتذة والمشائخ، وقال فيها: "وحيث عولت على طلب الإجازة من الفقير، ظناً منك أني من أصحاب النفير، وأنا كما يعلم الله عما تعتقده فقير، لم يسعني إلا كتابة ما تلقيته من أشياخي، وإجازتك بما أجازوني، ومشائخي في الطريق أعداد كثيرة، منهم من حالته خفية، ومنهم من حالته شهيرة. وجل اعتمادي في الانتساب إلى الطريق على الإمام الكامل الصديق، حامل لواء التربية والإرشاد، في الزمن الأخير، والمتبوئ في الولاية الكبرى مرتبة ليس له فيها نظير، العارف بالله والدال عليه، وافمام الذي لا تشد الرحال في طلب العلوم الدنيوية إلا إليه، سيدي ومولاي القطب الغوث المرشد الكامل عيد أعيان الكمّل من الأكياس، أبي بكر بن عبد الله بن طالب بن حسين العطاس. فقد اتصلت بهاذ الإمام، الاتصال التام، ولاحظتني عين عنايته التامة في القعود والقيام، كان ولا يزال يرعاني بعينه الرحيمة، ويسقيني من ماء علمه اللدني تسنينه". ص226-227. 
 

وفي بعض الوصايا يقدم المؤلف الإجازة ليس للموصي إليه فقط، بل كذلك لأقاربه مثلما يفعل في (الوصية 19) التي يكتب فيها: "وحيث طلبت الإجازة فقد أجزتك أنت وأولادك وأخوانك عبد القادر وعبد الله وعبد الرحمن وعلي وأبابكر بما تجوز لي روايته وتصح عني درايته من تعلم العلم وتعليمه وفيما تلقيته عن مشايخي من أذكار وأوراد وصيغ صلوات على النبي المختار، كما أخذت ذلك عن مشائخي الكرام والائمة الأعلام وهم العدد الكثير الذي لا يأتي على حصرهم تعبير".
 

ومن ناحية الطول تتراوح الوصايا بين الأربعين صفحة والصفحة الواحدة. فالوصية التاسعة بعد المئة تقع في الصفحة 514 فقط، وهذا نصها بأكمله: "بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله مظهر التعلقات، في الأعمال والنيات، والصلاة والسلام على أشرف السادات وخير البريات، وعلى آله وصحبه السالكين سبيله في العادات والعبادات. وبعد، فقد أجزت الولد الفاضل أبابكر بن أحمد بن أبي بكر بن الشيخ أبي بكر بن سالم، والأخ الفاضل صالح بن علوي جمل الليل، والمحب المخلص في وداده، الشيخ عبد الله بن محمد بن سالم باكثير، في ترتيب الأذكار والدعوات، وهي: (بسم الله الرحمن الرحيم، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. لا ملجأ ولا منجا من الله إلا إليه). مئة مرة وأقله عشر مرات كل يوم، وقت السحر أولى. (حسبنا الله ونعم الوكيل)، كل يوم أربع مئة وخمسين مرة. (اللهم احفظنا فيما أمرتنا، واحفظنا عما نهيتنا. واحفظ علينا ما أعطيتنا)، حسب الاستطاعة، وفي عموم الأوراد والأحزاب المنسوبة للسادة العلوية، وفي طلب العلم الشريف وتعليمه، كما أجازني مشائخ كثيرون. وأوصيهم بالتزام تقوى الله والعمل بمقتضاها، وبذل الوسع والطاقة في تصحيح العبودية لله، واستفراغ الجهد في صدق المعاملة له. والله أسأل أن يثبتهم على الصراط المستقيم، ويسلك بهم مسلك المتقين من عباده، والحمد لله رب العالمين".
 

وفي وصيته الطويلة (الوصية74) إلى أولاده عبد الله ومحمد وأحمد وعلوي وخديجة يستعرض الحبيب علي جزءا من سيرته الذاتية، وقد كتب فيها: "طلب مني أولادي وخاصتي، الذين هم لعيني قرة، ولقلبي مسرة، النجباء الأدباء، الذين أحسنوا في خدمتي ومودتي، وقاموا بما أستحقه من خدمتي وتربيتي، الولد الفاضل عبد الله بن الفقير علي، والولد الفاضل محمد بن الفقير علي، والولد الفاضل أحمد بن الفقير علي، والولد الفاضل علوي بن الفقير علي، وكريمتهم الكريمة خديجة، وكلهم بحمد الله عرفوا حقي، وقابلوا إشارتي بالقبول، وجاهدوا في خدمتي ما استطاعوا، وفي كل حين تحدثني نفسي أن أشرح لهم ما هو ببالي، من إرشاد وتعليم، وأخبرهم بكيفية بدايتي، واتصالي برجال الحق من أشياخي، وفي فصل أشرح فيه لهم كيفية تعليمي. كان مولدي في قرية قسم: قرية منسوبة إلى سيدنا الحبيب علي بن علوي خالع قسم، نفع الله به، محل خلع خلعه، وغرس غرسه، وهي بلدة منورة، كان يتردد إليها جملة من أسلافنا العلويين، فيها بنوا مساجد وبيوت. منهم السيد العارف القطب الشيخ عبد الرحمن بن محمد السقاف، وقد بنى مسجدا عظيما وغيره من كبار العلويين. كان مولدي بها في يوم الجمعة لأربع خلت من هر شوال سنة 1259هـ. وأمي التي ولدتني: السيدة الصالحة، العارفة بالله تعالى والداعية اليه، علوية بنت حسين بن أحمد الهادي الجفري، وقد كانت بأرض شبام والقارة، فلما علم بها الوالد، وكان رحمه الله يحب الدعوة إلى الله ونشرها في الرجال والنساء، أحب أن يحملها معه إلى بلدته التي هو فيها، وهو في تلك الأيام مقيم في بلد تاربة. فاستعان في خطبتها بالسيدين العارفين بالله تعالى الحبيب عمر بن محمد بن سميط والحبيب أحمد بن عمر بن سميط فتكلما فيها مع والدها، الرجل الصالح الحبيب حسين بن أحمد الهادي الجفري، وأخبراه بحال الوالد، وانه من الدعاة الى الله تعالى ورغباه في قبوله فبادر باجابتهما الى ما طلباه. لم يسألهما عن شيء من المال، إلا أنهما قالا له: ماذا تريد من جهاز فأجابهما: إنها شريفة علوية يعطيها زوجها ما تعتاده العلويات. إذا وصلت عنده يعطيها حقها. فقالا له: إن السيد يبتغي قرب الزواج. فقال لهما: متى شاء أجبناه. ولم يكن عند والدتي خبر وليس لها خبرة بوالدي ولا ببلده، إنما هي مطيعة لوالدها ووالدتها، فدخل عليها والدها في ضحى ذلك اليوم وأمها، وأخبراها بالزواج، فلم تتوقف عن إجابتهما، ومع ذلك ليس معها من مؤن الزواج ولا كسائه شيء، بل خلية من جميع الأشياء. وفي بلد شبام رجال من خيار المحبين، بادر كل منهم إلى إرسال ما حصل معه من كساء وغيره، فما غابت شمس ذلك اليوم إلا وهندها ما يكفيها، وفي تلك الليلة كان دخول الوالد عليها، وفي صبح تلك الليلة طلب الوالد من والدها حملها معه الى تاربة، فأجابه بالموافقة. فتوجها ضحى ذلك اليوم إلى قرية ذي صبح قرية بها السيد العارف بالله حسن بن صالح البحر ومن بعدها الى سيئون، ونزلا عند عمةٍ كانت للوالد، ومن بعدها توجها إلى تاربة البلد التي مقيم فيها الوالد وكان مع الوالد رضي الله عنه زوجتان غير الوالدة ولما وصل بهما اليهما... وإلى هنا وقف الوارد". ص385-386
 

 

وتعد الوصية الثالثة والسبعين من أطول الوصايا (من صفحة 327 إلى صفحة 362)، وفيها يتوجه المؤلف إلى السيد الفاضل عمر بن حامد بن عمر بن محمد بن سقاف الصافي الذي طلب منه شرح كيفية الانقياد لمشائخه. ومما كتب له "والفنون كثيرة، والاعين متعددة.... ما لاييكف"331
وفي نهاية كل وصية يوصي الحبشي متلقيه بتذكر الموت. مثلا في نهاية وصيته لمحبه أحمد مكارم يكتب: ص١2 هذا وأجعل ذكر الموت منك على بال، وتوقع هجومه في كل وقت. واستشعر الأهوال الكائنة بعده ليزداد خوفك، ويعظم جدك، وامتط غارب الاستعداد ليوم المعاد بالزاد، الذي ينفعك يوم يقوم الاشهاد، ويؤنسك في الألحاد....".

 

وفي نهاية كثير من والوصايا يطلب المؤلف من متلقيه أن يدعو له: "وأوصيك أن لا تنساني من دعواتك لي، ولمن شملته عنايتي، فأني والله حائر في مفاوز الخطر، واقف في فيافي الغواية، ولا تجهمت هذا الخطب الذي هو وصيتي لك إلا لأجل إذا انتفعت بها صار لي ثواب الدال على الخير...."
ومثل معظم الوصايا الأدبية تتميّز وصايا مؤلف (سمط الدرر) بمستواها الفني الرفيع. فلتحقيق أعلى مستوى من الإيقاع الموسيقي الهادف إلى شد انتباه المتلقي وعاطفته يستخدم الشاعر علي بن محمد الحبشي - في الغالب - أسلوب السجع في صياغة وصاياه. وقد بينت جميع الأمثلة التي أوردناها في هذه الدراسة أنه قد وظف نثرا مسجوعا مرنا حرص فيه على الاعتدال والتوفيق بين مقتضيات الدلالة ومتطلبات الإيقاع، وغالباً ما تكتمل الدلالة عند الكلمة الأخيرة التي هي الفاصلة. وعادة ما تأتي فواصل سجع الحبشي أما قصيرة أو متوسطة الطول.

 

وتعتمد وصايا الحبشي على أسلوب خطابي يوجهه الموصي مباشرة بضمير المتكلم: أنا، إلى المتلقي المحدد بضمير المخاطب المفرد: أنت، وتعتمد كذلك على أساليب الطلب الأمر والنهي والاستفهام والنداء والتمني التي نجدها في الوصايا الأدبية الأخرى. وتتميز بتوظيف نوع لطيف من الأمر يبدأ بـ (الله الله ...). ففي الوصية الثانية نقرأ "والله الله في القناعة بما قسم لك، والرضا بما أقامك الحق فيه، لتحوز كمال الأجر، وتفوز بالعيش الهني، والحياة الطيبة والموتة الحسنة.... والله الله في حسن الظن بالله، واستشعار فضله، وجودة رحمته فإنه يقول...". ص16-17

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24