الجمعة 29 مارس 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
صوت الملح - حامد الفقيه
الساعة 15:45 (الرأي برس - أدب وثقافة)


يناديك عبر مجراه الضيق، يلهبك ، يستحث صوت حنينه مسمعك، يرهبك نداؤه وأنت نائم، ويزعجك وقت قيلولة تسترق من أجفانك غفوة، تتظاهر أنك لا تبالي، ولا تأبه لندائه . 
وطن، ما الذي تفعله بك هذه الكلمة ؟!!
وطن ....
هل هي الطفولة المكسور جناحاها, تحتمي تحت رحمة شجرة السدر الوارفة, بعد أن حطم خفقانها ضربات المعول ؟. حتى إن عين الشمس باتت تحنو عليك بغزير القطر من جبينك، وهي توسع حدقتها علها تخيفك؛ فتهرع إلى حضن الراحة, لكن ما هي بشارتك التي تقدمها بين يدي أمك اليوم وسائر الأيام؛ لتطعم السبعة الذين يحتمون تحت ساعدك الغض ؟.
لا شيء هنا يشبه وطنك ... البرد يدكُّ مفاصلك وإن ارتديت عشرين كنزة صوفية، لا رائحة تنفح كرائحة أرض وطنك وهي تُسقى بعرق الظهيرة المهراق، ولم ترتو حتى سُقيت بدم (أبي حزام) جاركم.
هنا كلب ( جوليا ) يمسح بذيله أرصفة الشارع غير مكترث؛ لأنه سيرجع إلى حمام بخاري وتدليك ( جوليا ) .
(رجاء) التي ودعتك عند السقاية التي يتجمع عندها المتسوقون إلى المدينة لجلب حاجيات الشهر , والشهرين , والفصل . 
اختلست مع الفجر قبل أن يطلع الصبح كما اختلاس نهار وطنك من جنح الليل وغسقه؛ لترجوك أن لا ترحل ... لكنك رحلت .
ماذا ؟ أتطالعك عيناها ؟!!. وأنت تخون , تهجر , وتقع في يد غيرها ؟. 
هل تراها ؟ هي تراقبك الآن من ثقب الزمن المسطر على نبضات انتظارها . تطالعك بعينيها (البُنّيتين) كلون تراب الوطن، تطالعك من قارورة (الويسكي)، من رماد السيجارة، من وجه الشراب . تحاول أن تظهر من بين صخور الثلج التي تجمد حنينك .
( جوليا ) لا تشبه (رجاء) .
(رجاء) التي مانعت أن تعطيك أصابعها لتلعب بها .
( جوليا ) ، سلمتك كل شيء لمجرد انزمام شفتيك ، لتغرق في لجة بحرها الأزرق، وأخيراً بخمول تستلقي على شاطئ زرقة عينيها ، وتجفف جسدك البني بشعرها الأشقر . 
(رجاء) جعدها الأسود يظهر من خصلاته ابتسامتها الحزينة .
لكن ( جوليا ) تتصنع ابتسامة رشيقة ، تخيفك ، وتصطنع أنت الرد بضحكة مُرْعَبَة. 
أمك وهي ترجوك , كما (رجاء) أن ترجع , وتبكيك للقمر، وتستعطفك: (أخوك ذهب للقاء الله، ولم يرجع كما أنت) .
أخواتك تزوجن، وصار أولادهن يستظلون وقت الظهيرة تحت شجرة السدر.
هناك جارتكم (أم حزام) لا تشبه (كرستينا ) أبداً، جارتكم (أم حزام) سقط زوجها من أعلى شجرة السدر تلك ، وترك لها خمسة أيتام ، وموتاً آخر بطيئاً ينتظرها . 
نعم .. مات (أبو حزام) وقت الظهيرة , وهو يشم رائحة عرقك التي تحتفظ بها أرض الوطن, ولم تغب رائحتك عن أنفه حتى طغت عليها رائحة الموت .
وطن ... تحس صوت ملحه في مجرى دمك ؟.
تتجاهل ، وتدّعي الطفولة، وقلبك كاهل يسنده عكاز رحيلك. تمشي في شوارع عاصمة الضباب, وأنت مرعوب تتلفت .... أترعبك عيون ( جوليا ) الزرقاء؟، أم تحن لعيني (رجاء) , ولون الأرض؟ .أم تفقد بفقدهما الوطن ؟ .
الوطن .... معك حتى في لحظات غيابك، أو غياب عيني (رجاء) بين ثلوج (الويسكي)، ومع ذلك تريد أن تلمسه وأنت تلمس جبينك يتعرق من (مزاج الويسكي)؛ فتظنه عرقك المصبوب وقت الظهيرة هناك . 
الآن ليلٌ بارد رغم المدفأة العصرية ، تضم يديك إلى صدرك الخاوي الفزع، تحن لعيون من أحببتهم، لأغصان السدر المتراقصة، لعين الشمس تطالعك من الفراغات .
تبرر : (الوطن لم يعترف بجهدي وتعبي ، وكان عليّ الرحيل .) حزمت بقاياك وهربت, فارقته، لكنه يعيشك كل لحظة وسيظل حتى موتك، تتنفسه حتى يفارقك نَفَسُك، تحس الآن بدفئه، وتتطلع في عيني (رجاء) اللتين فقدتا بريقهما، كما فقدت أرض الوطن كل قطرة تنصبّ من جبينك الأسمر.... لكنك ما زلت تتحدث العربية، وتحتفظ ببعض (سور القرآن ) التي قرأتها في المعلامة... لم تزل عيناك سوداوين، ما زلت تحلم بمنقوشة الحناء, وزفاف السمر المخلوط بزغاريد الحمام البرية .
ما زلت تواعد (رجاء) بالعودة, ولا تستطيع الوفاء (لكرستينا) أو ( جوليا ) . 
وعند حافة مساء طالعك القمر, وأنت تذوب أمام المدفأة ... 
تُسابق ألسنة اللهب صعوداً لمؤانسته .
أمامك دولاب عرس أمك العتيق ....
لهث أطفال القرية وهم يتلاحقون على ضوء القمر. وجني تفاح الأرض آخر الموسم...
ضفائر (رجاء) ....
حكايات العجائز يخفنك من (أم الصبيان).
وكفن أخيك الذي رحل ...
ومسبحة والدك - تطوف حول عنقك بالدعوات, والصلوات - وقطرات تتخلل حبات المسبحة حول عنقك؛ فتحسها ساخنة رغم الصقيع ... فتلك دموع أمك .
تحتضنك (رجاء) بشوق وخوف لكي لا تهرب مرة أخرى ...
وتذوبان في ألسنة اللهب ....

3 / 4 / 2010م .

منقولة من روائع القصة العربية ...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24