الجمعة 26 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
الحداد يليق بزليخات يوسف - د.رياض صبار سندال القطان
الساعة 15:43 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


كان المقصود من تصفح زليخات يوسف للقاص علي السباعي- مجموعة قصصية لصديق أحبه - هو فضول قارئ يحسب مدى تغير اللغة عن سابقاتها،او يكشف الجديد ان وجد،وما كان بحسابي ان تجرجرني زليخات يوسف وخاصة قصتها الأولى(مريم البلقاء)وان أقف معها وقفة ناقد،ان الذي كسر فضولي هذا هو ما أذهلني من غرابة التكنيك في تقديم السريالي الذي ينم عن مغادرة التقليد في كتابة القصة الأولى ،بما يشكل إزاحة واضحة ملفتة للنظر تسجل للسباعي على مستوى كتاباته-في أقل تقدير-من سيقرأ مريم البلقاء،سيقف عند قراءة التمهيد اذ يعتقد المتلقي في الوهلة الأولى عدم تمكن القاص من الإمساك بخيوط اللعبة،حيث يتيه القارئ بتفاصيل ومعلومات لايعرفلها مبررا.مما يجعل المتلقي غير قادر على استساغة التمهيد بجزئياته.هذا في الوهلة الاولى.الا ان المتمعن في هذا التكنيك سيقف قطعا عند المنعطف الثاني ،تلك التجربة الثقيلة بتلقائيتها العنيدة وحزنها المفضوح،التي تحمل بقصد او بدون قصد علامات الخروج على الاعتياد.فالقاص اراد ان يأتي بالجديد فهو يحاكي جمال خيول فائق حسن والوانه بعد احدى واربعين عاما من رسمه لوحة(البدو).ولوحة البدو كانت حاضر مهر مريم ابنة عمه،وسوى هذه المعلومة لم يتحدث القاص عن اي شيء في التمهيد لهذه القصة .انما راح يتحدث عن تحدي المهندس(جان كلود ديسيتغن)لـ(غوستاف ايفل)ويزيد القارى علما بـ(ان من اصل فرنسي)وراح يفصل بناء(الاول)لبرجه قائلا:فقرر بناء برج في لوس انجلوس يبلغ ضعف ايفل تقريبا،طوله ستمائة وعشرة امتار،ووزنه خمسة عشر طناً واطلق على تصميمه اسم(برج السلام)وبعد هذا الاسترسال ينهي كلامه (الان – اعتذر عن طموحي البائس هذا)يعتقد المتلقي عن هذا الاعتذار بأن القاص ينهي تحديه وسيرجع ليمهد لقصته(مريم البلقاء)غير انه عاد ليقول:(اوه نسيت اخباركم ان طول برج افل ثلاث مئة متراً ووزنه سبعة الاف طن من الحديد المزخرف سأسمي قصتي: (مريم البلقاء)هذا التكنيك الاخاذ الذي ينم عن توقع مقدرة جادة في ايصال المعنى،يجعل المتلقي انه سيواجه مشكلة في التقاط انفاسه ويعتذر عليه من فرط الدهشة ان يجمع اطراف جلبابه وهذا ماحصل في تكنيك مريم البلقاء الذي اراد ان يقول مريم العذراء لفرط مااصابه من ارتعاش روحي وصخب نفسي افقده الاتزان،فبحر في مسارات قص تتلاطمها الفوضى واسفرت رحلته عن صيغ بناء متعددة رقص فيها رقصة زهور حسين ولونها بالوان استاذه فائق حسن لم يكن التمهيد اعتباطيا بل جاء لوحة تشكيلية تثير التسأول وترمي المتلقي عنوة في لجة المتن الحكائي للقص وكانت بعد اذ(مريم البلقاء)..(مونمواه..مونمواه..مونمواه بالامس احتفل العالم بعيد الحب،كان بائسا فارغا باهتا بينما العالم لا يحتفل بالعيد حبا،طلبوا مني باقتضاب:خذ ثأر بنت عمك وخطيبتك مريم).
 

الضربة الاولى موفقة(خذ ثأر بنت عمك وخطيبتك مريم)رغم الارباك الصياغي الواضح الذي يخلو من فن تكنيك الجمل الاولى ارباك عمادةالجمل القصيرة السريعة الايصال الا ان الذي يسرق الانتباه؛التداخل والانتقال في الموقف والمعنى من دونمااي وازع .مونمواه مفردة فرنسية اللفظ تعني عيد الحبنلم يعرفها الكثير رغم الاشارة الى معناها،تصدرت المردات الاولى للقصة،اضافت حافزا للتنبيه والترقب للامساك في المعنى ويستمر التداخل والسرد البعيد الذي يثقل كاهل القص بنتفتتقافز على قمم المواضيع لايبرره السرد ولا الحدث(لان جدتي أصرت ان يكون مهر مريم هو اخذي بثأر جدي من قاتليه،وإيمانا مني بان المؤمنين مبتلون اخذت نصيحة ابي الذي قال لي في صغري:بني لاتصعر خدك للناس ولاتمشي في الارض مرحا ان الله لايحب كل مختال فخور ،انفقت حياتي برمتها غير ساع للُار،برغم اصولي البدوية،لم يك ثأري ثارا بدويا،لا أخفيكم سراً:كانت خلاصة حياتي شبيهة بخلاصة حياة زهور حسين،نصيبها الرقص فقط)استرسال حر ينضد الجمل بمعاني خاصة ليس لها علاقات سببية او استنباطية لمعنى المشهد يمكن ان يوصف بـ(السرد التقليدي)انما تعبر اللغة عن حالة من الهوس وفوضى الحس النازف في الموضوع والمتحول الى ثرثرة غير منضبطة عمقها الروح وخلاصتها الفوضى(تضحك مريم عندما اخبرها ان ثأر جدي كان مثل موسيقى عنتر وعبلة وتلاطفني مازحة:((صدق معلم اللغة العربية الذي درسنا في الصف الخامس الابتدائي(ستار طاهر)عندما طلب منا كتابة موضوع انشائي عنوانه ان الاواني الفارغة تحدث ضجيجاً)اقرصها من خدها الذي يلتمع على بشرته لون العسل الحي،اعشقك مثل عشق شارلمان لفتانا)ثم راح القاص علي السباعي يشرح في الهامش من هو شارلمان لفتانا وماهي قصته،اما ستار طاهر فكان اسمه استدراجا في تثبيت الواقع وعرفانا لمعلم الابتدائية في موضوعات انشائه ومن ثمة لا علاقة للحدث بضجيج الاواني الفارغة ولا يفعل هذا التداخل شيء في ذاته الا الإشارة الى الواقع.ممايشتت امساك الموضوع في بؤر تخرج عن النسق الحكائي في ترهل يعيق انسياب القص غير ان مكامن اقتناص المتن الحكائي اختيار لذيذ.تتخلى اللغة عن شروطها التكوينية والتطبيقية في اماكن كثيرة من القص.لتفسح المجال لتداعيات الفعل في التعبير بهواجس سايكولوجية متضاربة سواء أكان ذلك في رصف المفردات ام ترادف الحروف: (بت اسمع صوت حوافر فرس رامحه فوق كلس القبور،الكلس يتكسر تحت سنابكها الصوت قادم،قادم،قادم،ضوضاء،ضوضاء،حوافرها تتصاعد،الواقع يتصاعد،يتصاعد،يقترب ابصرت من غيبوبتي فرس جدي البلقاء تمطيها مريم)غادرت اللغة قواعدها التطبيقية في سياق التداعيات النفسية التي رتبت المفردات حسب قواعد تكنيكية خاصة تصف اضطراب الروح وتداعياتها في خط سير الحدث (وقع حوافزها يتصاعد،يتصاعد،يقترب،يتقدم ناحيتي ،انه قادم ،قادم)يتلاعب القاص في تركيب المفردات وبنائها فهو يجعل من تصادمها اخاذا يمنحها معنى اعتباريا شعريا تقوده الموسيقى ضمنا على مستوى الحرف والجملة في تعاقب المفردات وتكرارها(اسمع صوت اصطكاك عجلات قطار سريع،صرير قاما نحونا،قادما صريره،يسلخ صوته أروحنا،الضوضاء تتصاعد ،تتصاعد الصوت قادم يتصاعد ، يتصاعد قادما،يقترب،يقترب في دجنة الغسق،القطار النازل من بغداد إلى الجنوب خلفنا حظر سريعا،جاء بأقصى سرعته،يخترق الصمت،الغسق الغروب بصليل وصرير واصطكاك وصياح وبضجة)توتر موسيقى في رسم الصورة محولا فيه السرد الاعتيادي من ظاهرة عادية معروفة الى نسق تركيبي توليدي ابداعي غير مألوف يحث الاندهاش في المعنى الحاصل من تصدم المفردات بحيث يأتي التركيز على معطيات طبيعية مألوفة متحولا في صيغة التكوينية ضمن علاقات الصورة السردية المتوترة الى معطيات غير مألوفة،اي ان البناء السردي للمفردات لم يكن سردا تقليديا انما حولت ادوات الربط فعل القص من المعنى الاجمالي الى المعنى المقصود تشيده السايكولوجيا وتتحرك فيه.(انخرطت في بكاء عجيب،حتى ان كتفي راحا يهتزان بقوة)نلاحظ وبشكل مقصود علاقات نفسية تتجاذب المعنى.
 

 

فمفردة(حتى)مفردة راحت تحرك المعنى باتجاه الدهشة،اي ان الدهشة هي حركة الاكتاف بفعل البكاء وكأن هذه الحركة لم تكن ظاهرة طبيعية لمن يبكي،فلو ابدلنا مفردة(حتى)بأداة اخرى كالواو لنقول: (انخرطت في بكاء عجيب،وان كتفي راحا يهتزان بقوة)لأصبحت الجملة تقليدية وصفية لاتفعل المعنى ولاتحرك كوامن النفس المتفاقمة حد الاستغراب.
 

وهذا التغيير بفعل(حتى)يجعل السرد كما لو كان طريقة جديدة في الرسم السايكولوجيا في مقاطع عديدة من هذا العمل مهماز فعال يحرك الإطار العام لفعل القص(سقطت قطرة ماء على خدها الايسر وتشظت،ثم عقبتها اثنتان طريتان تتقاطران على وجنتها اليسرى،تصورت السماء قد بدأت تمطر،مخطئ كعادتي،انه بكائي،دموعي تساقط عليها) احباط اكيد تصوره الكلمات وهي تصادم المفردات التقليدية بتوتر ازاحي مدروس يجعل المعنى السردي البائس يتسامى في حركته الدرامية والنفسية المعبرة.فالتأكيد على :(انه بكائي،دموعي تساقط عليها)جاء معبرا عن الاحباط في الموقف والروح وتحويل صيغ السرد الى مسارات نفسية تعبر عنها المفردات خارج اطار اللغة وخرج معناها القاموسي والاصطلاحي،بتلقائيتها العنيدة وحزنها المفضوح اي ان القاص حول الواقع بتداخله الزمني وعطاءات احباطه الى حلم وبسرد موسيقي يتحرك فيه غموض التنقل من حاضر الان الى الماضي القريب والى افق تاريخي يقترب ويبتعد حسبما يشاء ولوج الحلم بالواقع بحيث يحل الماضي ولأن الحاضر يتهيب الوقوف الا على قدم واحدة فأخذ الحدث خطا متعرجا في التاريخ: بين اللغة كنسق توصيلي يهتز بالمعنى النفسي والسوسيولوجي وبين تفجير الدلاللات النحوية الخاصة الزاخرة بالمساحات اللسانية التواصلية،مما يسهل تغليب الموضوع الذي يظهر بتأريخ مجزا وجدلي واسترجاعي .يضطر فيه مريم البلقاء وسبعها الى القفز على التحويل الابستمولوجي والاجتماعي والسياسي حيث يهرب قطيع اللغة في حقول المجاز والتكرار والفصل والوصل معبرا عن القلق الميتافيزيقي المشحون بالعاطفة.فحدث القصة حدث واقعي مر به القاص وخرجه هذا التخريج السريالي الذي يحمل بين طياته كمادات من اللامعقول خاففضة للحرارة تعصب له الرأس بجناحين ورديين لعنقاء عجوز تتذكر احلام عرسها الاول.

 

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24