الاربعاء 24 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
دانيل فان در ميولن ورحلاته إلى حضرموت - أ.د. مسعود عمشوش
الساعة 13:54 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)



خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين احتلت هولندا جزءا كبيرا من جزر الأرخبيل الهندي (المعروف أيضا باسم أرخبيل الملايو) الذي يضم جزر إندونيسيا وسومطرة وجزر بانياك وسنغافورة وماليزيا، ومن المعلوم أن جزءا كبيرا من سكان تلك الجزر اعتنق الدين الإسلامي الحنيف منذ القرن الأول للهجرة. ومنذ القرن الثامن عشر للميلاد أخذ عدد المهاجرين العرب القادمين من حضرموت إلى تلك الجزر يتزايد بل ويتضاعف، وسرعان ما اندمجوا وسط السكان المحليين، وكانوا من أوائل المقاومين للاستعمار الهولندي وحملات التنصير التي استهدفت سكان تلك الجزر. 
 

ولكي يتمكن المستعمرون الهولنديون من إحكام سيطرتهم على تلك المناطق واحتواء هؤلاء العرب المسلمين قاموا بسن قوانين تعرقل وصولهم إلى الأرخبيل الهندي واستقرارهم فيه وعزلهم في أحياء محددة تشبه "الجيتوهات" لتمنع اندماجهم وسط السكان المحليين. وسعوا كذلك لجمع التقارير عنهم وعن المنطقة التي ينحدرون منها في جنوب الجزيرة العربية.
 

ففي عام 1881، كلفت السلطات الهولندية هناك المستعرب فان دن بيرخ بتقديم تقرير مفصل عن طبيعة النشاط الديني والتجاري للحضارم في تلك الجزر. وقد نشر بيرخ جزءا من نتائج دراسته في كتاب وضعه باللغة الفرنسية وأسماه (حضرموت والمستعمرات العربية في الأرخبيل الهندي) عام 1886. 
 

وبعد مغادرة بيرخ من باتافيا (جاكرتا حاليا) عام 1889عينت هولندا المستشرق كرستيان سنوك هورجرونيه مستشارا لها في مكتب المستعمرات هناك. وقد وظف هورجرونيه مختلف الوسائل لمحاربة العرب والإسلام في تلك المنطقة من العالم و لم يتردد في إبراز التناقضات الموجودة بين صفوف المهاجرين الحضارم بما في ذلك سياسته المرتكزة على مبدأ فرق تسد، وكانت أيضاً من أهم عوامل تشويه صورة العرب والمسلمين وإشعال فتيل الصراع الإرشادي-العلوي في جزر الأرخبيل الهندي. وكتب أنه "كلما ازدادت العلاقة بين أوروبا والمشرق المسلم حميمية، ازداد عدد الشعوب التي تقع تحت سلطان أوروبا، وازدادت بالنسبة لنا نحن الأوروبيين أهمية أن نصبح أكثر ألفة ومعرفة بالحياة الفكرية والفقه الديني والخلفية التصورية للإسلام". ولهذا الغرض قام سنوك عام 1931بإرسال تلميذه دانيال فان دير ميولن إلى حضرموت لدراسة الأرض التي أنحدر منها آلاف من الرعايا الهولنديين ليستكمل رفع تقاريره عن الحضارم، وهذه المرة من خلال الذهاب الى عقر دارهم: حضرموت، وتحديدا تلك المناطق التي أكد فان دن بيرخ إنهم يأتون منها: وادي حضرموت. (انظر كتابنا الحضارم في الأرخبيل الهندي)
ولد دانيل فان در ميولن في بلدة (لارن) الواقعة في مقاطعة جيلدرلاند الهولندية في الرابع من سبتمبر من عام 1894. ودرس في جامعة لايدن، وكان من أشهر أساتذته فيها المستشرق الشهير كريستيان سنوك هورجونيه. أما حياته العملية فقد بدأها عام 1915، حينما عُيّن ضابطا استعماريا في جزر الهند الشرقية الهولندية، وكان قد قرر أن يستقر هناك لولا أن أستاذه سنوك هورجونيه شجعه -عام 1923- على التقدم بطلب الحصول على منصب قنصل في جده، وأوصى السلطات الاستعمارية الهولندية بتعيين "هذا الرجل الذي سيتحمل قسوة الحياة في الجزيرة العربية". ومن المعلوم أن قنصلية جدة كانت حينئذ مهمة جدا بالنسبة للهولنديين؛ ففيها تتم مراقبة الحجاج المسلمين القادمين من مختلف جزر الهند الشرقية. وبعد أن درس اللغة العربية لمدة ستة أسابيع في جامعة الأزهر في القاهرة وصل فان در ميولين إلى جدة في عام 1926، أي في الوقت نفسه الذي دخلها ابن سعود.

 

وبما أن العمل القنصلي في جدة كان يتركز في موسم الحج فقد نصح سنوك تلميذه بالاستفادة من وقته والقيام بعدد من الرحلات إلى حضرموت، الموطن الأصلي لآلاف الرعايا الهولنديين في الأرخبيل الهندي، ونزولا عند نصيحة أستاذه قام فان در ميولن بأربع رحلات إلى حضرموت في 1931 و1939 و1942 و1944. رافقه خلال اثنتين منها صديقه الجغرافي الألماني فون فيسمان.
 

وفي عام 1932 ذهب فان دير مولن إلى جاوة مرة أخرى. وعمل أولا مساعد المقيم في باياكومبو في مينانغكابو (غرب سومطرة) ومن 1935 شغل المنصب نفسه في باليمبانج في جنوب سومطرة. وقد تركها ليقوم برحلته الثانية إلى حضرموت عام 1939 بصحبة فون فيسمان.
 

وبما أن القنصل الهولندي في جدة لم يستطع العودة إلى مكان عمله، بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية فقد أرسل فان دير مولن مرة أخرى إلى جاوا، وهذه المرة بصفة وزير مفوض. ومنها زار ميولن حضرموت مرة ثالثة ورابعة. وفي عام 1945 عاد إلى جزر الهند الشرقية الهولندية للعمل في إدارة المعلومات الحكومية. وفي عام 1948 تركها نهائيا وعاد إلى هولندا، وعمل مذيعا في قسم اللغة العربية من إذاعة هولندا العالمية. وكان ذلك آخر عمل له قبل تقاعده في عام 1952. لكنه لم يترك اهتمامه بالعالم العربي والإسلامي، بوصفه رحالة ومذيعا، إلى أن توفي عام 1989 في بلدة جورسيل الواقعة في مقاطعة جيلدرلاند في هولاندا.
 

مؤلفات ميولن عن الجزيرة العربية
لقد نشر دانيل فان در ميولن أكثر من عشرة كتب نصفها باللغة الإنجليزية، ومعظمها تتناول رحلاته في الجزيرة العربية؛ اثنان منها يسردان رحلتيه الأولى والثانية، وضمّن كتابه (وجوه في أرض سام Face in Shem وقد ترجمه نجيب باوزير بعنوان وجوه في بلاد العرب) فصلا مهما بعنوان (أبوبكر بن شيخ الكاف، باني حضرموت الحديثة) يروي فيه جوانبا من رحلته الثالثة في حضرموت. ومن أهم كتبه (آبار ابن سعود Wells of Ibn Sa'ud. London: Murray, 1957) الذي يتحدث فيها حياته في المملكة العربية السعودية.
 

وسنكتفي هنا بعرض موجز لكتابيه الأول والثاني اللذين كلفت جامعة عدن المرحوم محمد سعيد القدال بترجمتهما من اللغة الإنجليزية إلى العربية ونشرا عن دار جامعة عدن للطباعة والنشر في عامي 1997 و1999: (Hadramaut: some of its mysteries unveiled (met H. von Wissmann). Leiden: E.J. Brill, 1932.، و Aden to Hadhramaut: a journey in South Arabia (met Bernard Reilly). London: Murray, 1947.
 

في (حضرموت: إزاحة النقاب عن بعض غموضها)، يروي فان در ميولن الرحلة التي قام بها إلى حضرموت في صيف عام 1931، وصحبه خلالها صديقه الجغرافي الألماني فون فيسمان الذي شارك في تأليفه الكتاب. وقد انطلقت الرحلة من عدن ثم المكلا ومنها توجها، عن طريق وادي دوعن إلى شرق وادي حضرموت، وكانا هما أول غربيين وصلا إلى قبر نبي الله هود وبئر برهوت التي فشل جميع الرحالة الغربيين في الوصول إليها خلال القرن التاسع عشر، وقد ساعدهما في تحقيق ذلك مرشدهما علي العطاس (النعيري) أو علي البدوي كما يسميانه. ويعترف المستشرق كرستيان سنوك هورجونيه في التقديم الذي وضعه للكتاب، أن رحلة ميولن كانت تهدف إلى استكمال "اختراق جزيرة العرب" استكشافيا، والتعرف على أوضاع رعايا هولندا في حضرموت، وأضاف: "لقد اقتنع فان در ميولن خلال السنوات الخمس التي قضاها في منصب قنصل ثم قائما بالأعمال في جده، أن الوقت قد حان لتوسيع نشاط البعثة الهولندية إلى أجزاء أخرى من شبه الجزيرة العربية، بجانب مملكة ابن سعود الثنائية، وأنه من مصلحة هولندا إقامة علاقات ودية مع الإمام يحيى في اليمن وإذا أمكن أيضا أن يضمن استقبالا مناسبا لممثل هولندا في حضرموت، وهو موطن كثير من العرب الذين يعملون بجد ويجدون لهم حظا في ممتلكات هولندا في جزر الهند الشرقية. وقد حصل على موافقة حكومة هولندا للقيام بهذه المهمة، وكانت الموافقة مصحوبة بحذر فيما يختص بحضرموت. وكان الترخيص التفويض الذي حصل عليه من حكومة عدن من شأنه أن يضمن له دخول المنطقة الساحلية في يسر، أما فيما يتعلق بالوصول إلى حضرموت الداخل فهذا أمر لا يمكن التنبؤ به بأي درجة من اليقين، على الرغم من أن نفوذ البريطانيين قد أزداد هناك بعد الحرب العالمية، إلا أنهم حصروا صلاتهم المباشرة في تلك البلاد بوجه خاص على الاستطلاعات الجوية التي حصلوا منها على صور فوتوغرافية رائعة". ص14-15
 

ويذكر المؤلف إنه قد استقبل بشكل رسمي بوصفه ممثل هولندا، وتواصل مع عدد كبير من أفراد المجتمع الحضرمي كبارا وصغارا، بدوا وحضرا؛ فهو التقى بعلي المحضار وزير السلطنة القعيطية، وباصرة حاكم دوعن، وعلي بن صلاح حاكم القطن وشبام وآل مرتع في هينن وآل الكاف في تريم، والسلطان علي بن منصور الكثيري وبن عبيد الله السقاف في سيؤن. وقال إن عددا من "رعاياهم" طلبوا منه صراحة ضم حضرموت إلى ممتلكات هولندا.
 

وطبعا، مثل معظم الرحالة الغربيين، سعى ميولن إلى اكتساب الشهرة من خلال الاستكشاف، وحرص على تضمين سرد رحلته إلى حضرموت معلومات علمية جديدة، لاسيما في مجالات الجغرافيا، والعمران، والتركيبات والعادات الاجتماعية. وفيما يتعلق بالخرائط ساعده فرون فيسمان. 
 

بالنسبة للحياة الاجتماعية مثلا، لفت انتباهه غياب الحواجز بين كبار القوم وصغارهم، وفسر ذلك قائلا: "الحياة هنا ديمقراطية؛ ففي غرفة الاستقبال المكتظة بالناس، يجلس العبيد والخدم والأطفال وصاحب الدار معا، يشربون من نفس الإناءـ ويملئون لأنفسهم القهوة في نفس فناجين الآخرين.. والبدو كذلك ديمقراطيون إلى حد بعيد، فهم إذا أرادوا أن يسألوا عن شيء لا ينتظرون اللحظة المناسبة بل يصيحون من مؤخرة القافلة: يا حرمل، أو يا قنصل، فأرد عليهم في الحال بنفس النبرة: يا حاج، يا سيباني".
وفي الكتاب الثاني (من عدن إلى حضرموت، رحلة في جنوب شبه الجزير العربية) يسرد فان در ميولن رحلته الثانية التي رافقه خلالها فون فيسمان أيضا. لكن هذه المرة لم يمر الرحالة عبر ميناء المكلا بل انطلقا من عدن وتوجها إلى شقرة ولودر وممر الطلح، ثم اخترقا مناطق قبيلة آل جابر ونصاب وهضبة السوط وعقبة باتيس، ثم وصلا وادي عمد وحريضة إلى أن بلغا من وادي حضرموت. 

 

ومن الواضح أن ميولن قد أراد في هذا الكتاب مجاملة السلطات البريطانية في عدن. فهو قد طلب من الحاكم السير بيرنارد رايلي كتابة تقديم للكتاب. ومن جانبه أكد في مقدمته: "أن مصالح بريطانيا العظمى وهولندا تمتزج بشكل وثيق ليس فقط في حضرموت بل أيضا في الشرق الأقصى، فالتعاون الوثيق الذي نشأ بين إدارتنا الهولندية في إندونيسيا والإدارة البريطانية المتمركزة في سنقافورة يشكل دليلا على عمق مصالحنا المشتركة". ويرى د. محمد سعيد القدال أن "الكتاب من بدايته إلى نهايته دفاع حار عن السياسة البريطانية في عدن والمحميات. فهو تحدث بإعجاب عن المستشار هارولد إنجرامس والصلح الذي تحقق في أيامه، على الرغم من أن الأساليب التي أتبعت لتحقيق ذلك الصلح لقيت معارضة حتى من قبل بعض البريطانيين، وأشاد كذلك بالسياسة الهولندية في مستعمراتها، وما وفرته من فرص للحضارم لتنمية ثرواتهم وتحويل دخلاتهم إلى بلادهم، ويتحول المؤلف هنا إلى استمعاري محترف".ص7. ويضيف القدال: "وفي سياق دفاع المؤلف عن السياسة البريطانية في حضرموت، دافع بحرارة عن الحضارم الذين يؤيدون تلك السياسة، وركز على السيد أبوبكر بن شيخ الكاف الذي يرى أن السبيل الوحيد لوقف الحروب القبلية الطاحنة التي تدمر البلاد هو تدخل سلاح طيران فعال. والإنجليز أقدر من يفعل ذلك. والسيد الكاف يشتاق على التحديث ويرتاد آفاقه، فقد شيد أول طريق للعربات من الساحل إلى تريم، وجلب أول عربة للبلاد. وأدخل خطوط التلفون والخدمات الصحية وأسهم في تطوير التعليم".ص8
 

وانتقد فان در ميولن في كتابه الثاني سعي الحضارم إلى تحديث النمط العمراني التقليدي، وتأثرهم بالهندسة المعمارية في شرق آسيا. وقارن بين تجربة الكاف في تحديث حضرموت ونجاحها في تريم وبين تجربة آل مرتع التحديثية التي فشلت في هينن. كما تحدث عن وضع اليهود الموجودين في أبين في تلك الفترة التي كان يهود أوروبا يتعرضون فيها لمحنة من قبل النازيين في ألمانيا.
 

وقبل أن نختتم الحديث عن هذين الكتابين علينا أن نشير إلى أن ميولن قد نشر كتابه الأول باللغة الإنجليزية مباشرة. ويقول في مقدمة الطبعة الأولى لكتابه الثاني الذي صدر أولا بالإنجليزية "هذا الكتاب نص باللغة الإنجليزية للمخطوطة باللغة الهولندية التي تعرضت لتغييرات كثيرة. كانت نيتي أن أنشر سرد رحلتي في ليدن، حيث بدأت دراساتي الاستشراقية، ونُشر كتابي الأول عن حضرموت باللغة الإنجليزية، وعندما جعل غزو هولندا هذا الأمر مستحيلا أقنعوني بإرسال المخطوطة إلى مستعمرة هولندا في جزر الهند الشرقية لتنشر في باتافيا، وحينما قام اليابانيون بغزو جاوا قام الناشر بوضع المخطوطة والصور الممتازة في خزينته. لذلك بدأت ترجمة إنجليزية للمخطوطة بتشجيع أصدقاء أود أن أعبر علانية عن ديني لهم"ص13
 

وفي الحقيقة، بسبب ضعف انتشار اللغة الهولندية، دأب الرحالة الهولنديون خلال القرنين الماضين إلى نشر نصوصهم أما باللغة الفرنسية -في القرن التاسع عشر-، أو باللغة الإنجليزية في القرن العشرين. وقد أشار فان دن بيرخ في مقدمة كتابه (المستوطنات العربية في الأرخبيل الهندي) أنه قد ألف كتابه باللغة الفرنسية عام 186 رغبته منه في نشر النتائج المهمة لدراسته بلغة أكثر انتشارا من اللغة الهولندية. 
 

واللافت حقا أن تقوم سفارة مملكة هولندا في صنعاء بالتعاون مع سفارة اليمن في هولندا، عام 2003، بنشر كتاب يحتوي عددا من الصور التي ضمنها ميولن كتبه مع نص مكتوب اللغة الإنجليزية وترجمة بالعربية، وغابت تماما اللغة الهولندية. والكتاب يحمل عنوان (دانيال فان دير ميولين في العربية السعيدة: رحلات وصور دبلوماسي هولندي في اليمن، 1931-1944، Daniel van der Meulen in Arabia Felix: Travels and Photographs of a Dutch Diplomat in Yemen, 1931–1944)
 

ويمكن أن نشير كذلك إلى إدارة الآثار في سيؤن قامت بتخصيص قاعة كبيرة في قصر سيؤن لتعرض فيها بشكل دائم أهم الصور التي ألتقطها فان در ميولن خلال رحلاته في حضرموت وضمنها كتبه المختلفة، وذلك منذ عام 1997.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24