الجمعة 03 مايو 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
حمير علاية
مشاهدات في كنف رئاسة مرسي.
الساعة 00:59
حمير علاية

 

"البدلة الزرقا؟ ازاي؟"
محمّد مرسي، الرئيس المصري الأسبق، يصرخ في السجن أمس.

لا أريد أن أذكّرك، ولا أتذكّر الآن، تلك الأكوام من العمائم، والشوالي المعبئة بالأتربة، والنفايات الملوّنة، والحمام المفتوح خلف مبنى المحكمة الدستورية العليا على كورنيش المعادي. 

كان صاحب "التكسي" ساخطاً، غاضباً. المصريّون لم يعهدوا أن تهان دولتهم، ومؤسساتها، بذلك القدر من الفجور المفزع.

عشت أنا تلك الأيام؛ أيام حكمك مصر، وأصبحتْ جزءاً من ذاكرتي. 
لقد كنتُ كما أنا، مصرياً حتى عظامي.

سأكتب عنها، في لحظة انسجام مع نفسي. سأكتب فيما بعد، حين كنتُ في مصر، أتنفّسها منذ الصباح، وحتى الصباح. أتنفّس يوميّاتها، عبر الجورنال وعمو رمضان أسفل العمارة، والشارع، والأوبرا، والقلعة، والنيل، والتحرير، وخان الخليلي، والحسين، والأزهر، والشبراوي، والاتّحادية.

وتنفّست فيها الغاز المسيل للدموع، لأول مرة في حياتي، في أحد مساءاتك.
ودعني فقط أحكي لك عن ذلك المساء.

كنت أسكن في عمارة مطلّة على قصر حدائق القبة الخلاب المدهش.
خرجت إلى "البلكونة" كعادتي كلّ صباح، أجيل نظرتي في مساحة القصر الخضراء الممتدة، وعلى يميني مبنى المخابرات العامة، والمارّة والعربات، وبائعو القصب والتمر الهندي، والبنايات الشاهقة، تغطيها طبقة التاريخ الدّاكنة العبقة المحبوبة.

في ذلك الصباح، رأيتُ باحات القصر مطرّزة بقوافل من السيارات البيضاء، المتعددة الأحجام والماركات. سألت والدي عنها، قال لي، ربمّا الرئيس هنا اليوم، وسكت.

كان ذلك الجمعة، يوافق 15 2 2013م.

فكّرت أنّ تجهيزاً لاستقبال رئيس، أو وفد. فمظاهرات الاتحادية قد دفعتك إلى هنا. لكنّ تلك القافلة"المباركة"، معدّة لمن سيرافقونك في صلاة الجمعة من كلّ أسبوع. تماماً، كما لو أنك وهم، في مخيم صيفي كشفي. يرتادون ذات الملابس الموحّدة، ويمشون بخطوة منظّمة، صعوداً ونزولاً من الحافلات.

الناصري العتيد أسفل العمارة، يقرأ الجورنال كالعادة. سألته: قال آه.. الراجل هنا. نعم.. قالها هكذا حرفياً، وبسخط وسخرية. لقد كان النّاس يعرفون كلّ تحرّكاتك، قبل أخبار الصحف. لقد كنت حديث الشّارع، ومنكشفاً، أكثر من مباراة مرتقبة للأهلي والزمالك، في نهائي موسم مشحون بالسجال والتعصّب.

بعد المغرب، كانت بوابة القصر مكتظّة. 
كنتُ بينهم.. تضجّ الهتافات، وتلوّح الأعلام بكثافة. يكاد الباب الضخم العالي أن ينخلع. بالتأكيد لا وجه استوقفتْه شكوكُه بي.

 دمعت عيناي من الغاز ليلتها بحرقة، أمام بوابة القصر. أطلق الشرطة القنابل الغازية. عدت إلى الخلف، استندت إلى تلك القبّة المسجد، الأثرية الفخمة العالية، بجوار القصر، قبة يشبك من مهدي، التي بناها الأمير المملوكي يشبك، في سنة 882هـ.

كانت مصر بكل تاريخها الموّار تتسلّق دمي، وأصوات النّاس معها، وتتسلق نظرتي جنبات السّور. وأفكّر جازماً، بأنك قد خرجت من بوابة أخرى، خلفيّة.

"ثورة ثورة حتي النصر .. يلا يا مرسي سيب القصر". " أنا مش كافر أنا مش ملحد.. يسقط يسقط حكم المرشد". "اقتل شكري.. اقتل جابر.. عذب جندي.. اسحل صابر.. إملا إملا الأرض عساكر.. هي بتطرح، بدل الثائر مليون ثائر".

نعم.. لقد شاركتُ في مظاهرات إسقاط حكمك، ليس لأنّك محمّد مرسي الرئيس، بل لإيماني بأنّك محمّد مرسي، الموظّف لدى جماعة أيديولوجية محنّطة، لا تتّسق وفكرة الدّولة بمفهومها الحافظ للأرض والإنسان. لقد اتّهم المتظاهرون حكمك بالفساد السياسي والمالي، وإن كان الأول أقوى، إذ أنّك قد عملت على ملشنة الدّولة، وطالبوك بإصلاحات تطال الحكومة والانتخابات والخدمات. 

لكنّك لم تكن تسمع، لأنّ رأسك ليلتها، كان في المقطّم المنيع، يتلقّى التوجيه والوعظ، ويهزّ ذاته للطاعة، ويقول حاضر، للمرشد، "الملالي" المصري الجديد.

لن أنسى تلك الليلة.. 
لقد عشت اللحظة كما لم يسبق لنفسي ووجداني، بمشاعر تخالط وجوه النّاس وعيونهم، وشرود، تنجزه في عقلي الأحداث، والأفعال، والحركة، والغضب المرعب. ثمّ عدتُ لأخلد للنوم قلقاً، منتظراً الصباح، كما قلق الأرض التي أحبّها.

قرأت صباح اليوم التالي: "مظاهرات قصر القبة تطالب بإسقاط النّظام".

حكاية للتاريخ.. سترويها الأجيال، ليس عنك بالضرورة كأداة، بل عن سنة، رآها الشعب المصري تيهاً مخيفاً، أعقبها حدث مفصلي مقدّس في تاريخه. قالت فيه مصر للعالم: أنا مصر، وسأبقى لأبنائي، للأرض، للتاريخ، لحركة وجود البشرية.

كنتَ وما زلت أحد أبنائها، لكنّك عصيتها كما تقول. ستأخذك كما غيرك من أخوتك، بالتأديب والعقوبة، وحتى حد تطهيرك.. لا بأس يا سيادة الرئيس.

سأقول لك هذا المساء أيضاً، ما أعتقد أنك به تعلم. لكن، دعني أقول ما قد لا يبدو مهماً حتى لسواك.. لكنّ للكتابة بهجتها فينا، ووجعها أيضاً.

 مثُلتَ يوم الثلاثاء الماضي، أمام محكمة جنايات عادية في القاهرة، يمثل أمامها أي مواطن مصري، وبأية تهمة أو جناية.

ثمة تهم مدفوعة تصل القضاء، وثمّة جرائم، ينصّ عليها قانون العقوبات المصري. بدوره القاضي، فإنّه ينظر في الأدلة والبراهين والمستندات والقرائن والاستجوابات، ويضعهات أمام قانون العقوبات، ويصدر حكمه في القضية المنظورة، وينفّذه.

بهذا الأفق القضائي الثابت والعام، جرى الحكم عليك مؤخَّراً.
سيستقبل القضاء الطعونَ على الحكم، سواءٌ من أسر الضحايا الغاضبين من تبرئتك عن القتل العمد وحيازة الأسلحة، أو من هيئة الدفاع عنك، عبر إجراءات قانونية قضائية معروفة، تجيزها، وتنظّمها لائحة القضاء، فقط.. آه والله، فقط.

هذا هو عمل القضاء المصري، المستقل، والحر، والنزيه، كما وصفتَه قبل، أكثر من مرّة. القضاء المسمول العينين عن كلّ ما يعجّ من حوله، ويضجّ، سوى ما على طاولته.. من مظاهرات جماعتك المهدِّدة، وتصريحات من داخل مصر وخارجها، وحتى قلق الرئيس أوباما البارحة.

ستمثل مجدداً أمام التهم الأخرى، في مواعيد المحكمة المحدّدة، التخابر، وإهانة القضاء، والهروب من السجن.
لا أدري ماذا سيُحكم عليك بها، لكنّ الأولى تحزّ في نفسي، وأرجو أن تكون بريئاً منها. المصريون لا يخونون وطنهم.

هل تعلم يا سيادة الرئيس؟
البدلة الزرقاء وسام على صدرك لو كنت تعلم، لأنك لم تأمر بقتل أبنائك. هكذا برأك القضاء.. وبرأ سيادة الرئيس مبارك من قبلك.

 كنت سأحزن لو أنّ القضاء أدانك بقتل أبنائك. لا أتصوّر أنّ رئيساً مصرياً يأمر بقتل أبنائه. لقد فرحتُ لذلك، كما كان فرحتي مع الرئيس مبارك من قبلك.

هو ذات القضاء الذي ألبسها مبارك، ثمّ خلعها عنه، وذات القضاء الذي ألبسها مرشدين سابقين، ثمّ خلعها عنهم. هو ذات القضاء الذي انتصر لجماعتك في ٢٠٠٥، فيما سمّيت معركة النزاهة ضدّ نظام الرّئيس مبارك.

هو ذات القضاء الذي أعدم محمود رمضان، قبل أيام، بعد إدانته بإلقاء الأطفال من على عمارة سيدي جابر في الاسكندرية. هو ذات القضاء الذي سيصدر حكمه الشهر بعد القادم، في قضية مقتل الشيعي حسن شحاتة.

هل تعلم يا سيادة الرئيس؟
لقد كنتَ نقيضاً صارخاً وجليّاً لعمرو بن العاص. كان ذلك العبقرية مدركاً لتركيبة الشخصية المصرية، وأرسى التعايش التاريخي بين المسلمين والأقباط. وحكم ومَن بعده، بقدر عالٍ من الحساسية تجاه شخصية ممتدّة في عمق وجود الإنسان، من الاعتقاد والتدين والبناء والعمران والتعامل.. والحياة.

كنتَ قد خطبت ضدّ سوريا المثخنة بالطائفية.. خرج علماءُ يقولون بأنك أمرت بتتبّع الشيعة، وخرج آخرون يتّهمونك بفتح بوابة مصر لإيران ومشروعها. قُتل في هذا الفضاء المتدافع بالمخاطر، حسن شحاتة، فصعقت مصر عن آخرها.

لا أدري لماذا حدّثتك عن شحاتة.
لقد تخوّف المصريون من كلّ شيء. من الطائفية، ومن نظام ينفخ فيها على طريقته. ومن دم مصري يُهدر لمذهبه، وبلا حق، وبأيدي لصوص في الشارع، وبتصفيق لقتله في بعض القنوات. لقد شعر المصريون أنّ دولتهم تنهار، وتغيب مؤسساتها، وينهارون، وتنهار إنسانية الإنسان، على أرضهم.

حين قرّرت فضّ اعتصام الاتّحادية، قال نائب رئيس ديوان الرئاسة حينها، أسعد الشيخة لقائد الحرس الجهوري بعد الفض: إيه رأيك برجالتنا؟

سيُقتل كل من شارك بقتل شحاتة.. وستطمئنّ الأرض على الدم السارب عليها منذ 7000 سنة، المعصوم بيدالله إلا بما جنى.. والله ربّه لا يظلمه.

وهل تعلم يا سيادة الرئيس؟
أياً كان شعورك وأنت خلف القضبان، بالبدلة الزرقاء، فالدّولة المصرية لا يمكن أن تسقط. هل تعي معنى أن تكون هناك دولة بلا قضاء يفصل في قضايا الناس، ويحفظ حرماتهم، ويمنع هدر الأرواح والحقوق في مجتمعٍ ما على الأرض؟ وهل تعي جماعتك ذلك؟

يتحدّثون عن القضاء الذي مثلتَ أمامه، ويصفون، ويحلمون، ويتوهّمون، ويهرطقون بأحاجٍ مضحكة، وأمنيات، تصل حدّ الإضرار بالدولة والجغرافيا والاستقلال والنسيج والوجود. تبدو أحاديثهم كما لو أنها فقرة من مشهد من رواية من روايات الخيال العلمي لجون فيرن. 

لم أصدقهم، بل صدقتك أنت، وصدقت الرئيس مبارك، والرئيس السادات من قبل والرئيس ناصر.. صدقت رؤساء مصر في أحاديثهم عن قضاء بلدهم.

مصر نقيض موضوعي للفوضى، وللخراب والدّمار والدماء، والصّراعات التي تطحن الشّعوب، ودولة صلبة متجذّرة تنمو باستفاقة وديمومة، كقانون طبيعي، لا تعيها حدّ اللحظة، ليس فقط ذهنية اليمنيين، بل ذهنية الجزيرة العربية كلها.

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
1
2015/04/24
ابوحسام
موسسات العسكر وعملاء البياده
الشعب المصري مسكين العسك سقه كل شيئ في مصر وتحولت الموسسات الى عبيد البياده من اجل الفتات
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24