الأحد 28 ابريل 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
أحمد طارش خرصان
المشهد الأخير للموت
الساعة 16:58
أحمد طارش خرصان

إلى الشهيد صادق الشراعي  ونحن نعيش الموت مشاهد ليست أخيرةً.. دقائق فقط قد لا تتجاوز أصابع اليدين ، كانت الفاصل بين حياتين ، لم يكن بمقدور أحدنا تفادي الأقدار والقفز على أرادة الله.. أخذنا مقعدين متجاورين ، دون أن ندرك أنه المقعد الأخير في دنيا، أفرغت مقاعدها للأوجاع والمآسي وأحزان كثيرة ، لن تستطيع سلة غذائية أو مبلغ مالي التخفيف من ألم ووجع ، كنَّا نعتقده خاصاً- بأسر الضحايا - لنجده اليوم وقد تحول إلى ألم بلدٍ وأمة وشعب .

لا يزال المشهد الأخير ماثلاً بين عيني 
كتلة اللهب الضخمة
الصوت المدوي
إرتطام الأجساد ببعضها
الأشلاء المتناثرة بلونها النازف حمرةً والتفاتات خائفة ومخنوقة
الغبار الذي التهم صرخات الفزع والرعب
تدافع الهاربين من النهايات غير المتوقعة
وعنتريات المسلحين واستجابتهم السريعة لدوي الإنفجار المنطلق رفقة الدماء البريئة والأجساد المحترقة ، والتي ترجمت بإطلاق الرصاص في كل الإنجاهات وكأننا في معركة ما أو مواجهة عابرة ، ربما انتباهة واحدةً من أحدهم كانت كفيلةً بتعطيل تلك الكارثة وتفكيك أحقادها وخططها المعتوهة .

ثلاثة أعوام مرتْ، لكن صور الشهداء لم تبرح وجع المدينة المتسع والمتزايد ، لتظل تلك الواقعة والجريمة المنظمة عنوان مرحلة وثمرة ثورةٍ ملأها الحوثيون ألماً وحزناً وعتمة وسوداوية .

مات صادق الشراعي رفقة كثيرين ( خليل المهنا - نبيل عبدالغني - عبدالرزاق سنان - حمزة المتوكل - أبو حسن المهدي ... وإخرون) قبل أن ألتقط معه صورة تذكارية في مكتبه الذي حالَ الموت دون الجلوس على مقعده كمديرعام للسكرتارية خلفاً للحداد ، الذي أظهر رفضاً مدعوماً للقرار آنذاك ، ليقبل التنفيذ عقب مجيء الحوثيين وبمشاعر لا تخلو من تقديم الإمتنان والتعبير عن صوابية ما تم اتخاذها ، ليغادر الحداد مقعده، فيما حمل الإرهاب جسد الصديق والأخ والزميل صادق الشراعي رحمه الله ، دون أن أصرخ في وجهه ( لمو يا صادق ما استمعنكيش وانا قد قلت لك لا تروح بعد المحافظ القاضي ( يحي الإرياني ) حفظه الله ورعاه .

لم أكن الناجي الوحيد ذلك اليوم، لكنني اليوم صرت المتضرر المشرع على الخرائب والميت الذي يعيش حياته المتشظية بجسد منهكٍ ومستقبل مهشم وضرير.

رحل الشهيد صادق الشراعي محاطاً بألم الناصريين وفجيعتهم برحيله القاسي ، رغم إيمانهم أن صادق الشراعي - رحمه الله وجميع الشهداء - أصلب من أن يطمره النسيان أو يطويه الزمن ، ناهيك عن الناصريين وتفانيهم العصي في إفراغ حياتهم لمناضليهم وقادتهم الذين أرخصوا الحياة، وجعلوها ثمنا مستحقا لخلود أبدي وطويل.

لعلني أرسم صورة مفترضة للشهيد صادق الشراعي - رحمه الله - حيث هو الآن متخففاً من ثقل الإلتزامات الحياتية والمهنية والحزبية ، وربما يدون تأملاته وسيرته المكتضة - كأيّ يمني - بالأفراح والأتراح، لكنه ربما سيجدها فرصةً للتجوال في فضاءات إخوانه الناصريين من أولئك الذين تقاسموا الحياة كدحاً وشظف عيش معجون بأنفةٍ وسمو .

ربما يتذكر الشهيد صادق الشراعي ذلك الكهل المتصبب حيوية ونشوة وهو يغترف ملعقة قات مطحون ، في متكأه الثابت في زاوية المجلس بمقر التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري ، وسيجد من الوقت ما يمكنه من تتبع حياة الأستاذ عبدالإله البعداني كرجل ، تعلم كيف يدير حياته وسط كومة القذارات والروائح الكريهة ، دون أن تتسخ روحه ليظل الناصري الكهل والأديب والخطيب المتقدم وهو يغازل بنات القصيد وفتيات البيان واللغة الفارهة .

سيتذكر الشهيد صادق الشراعي حالة العدائية التي نبتت بيني وبين الأب والإنسان عبدالإله البعداني أثناء ممارستنا لحياتنا الأدبية داخل أروقة مبنى اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين ، وكيف أننا تخلصنا من تلك العدائية بعد أن نجح الأب عبدالإله البعداني في ترويض عدائيتي تلك ، ويهذبها لتكون بمقاسات انتمائنا للقيم والمثل العظيمة كناصريين يدركون أنهم موطن المثل وذروة القيم والمثل النفيسة .

لا أدري ما الذي سأقوله للشهيد صادق الشراعي وهو يسألني أين عبداللطيف الظراب ..؟ 
وكيف أنني لم أعد ألتقيه لأسباب كثيرة ، لأمنح إثرها نظرات العتاب تجاه هذا السلوك المستهجن ، إذ لا يمكن لمثل عبداللطيف الظراب أن تغفله العيون وتهمله المشاعر .

يتفرد الناصري المزدحم بالهموم الفنان والمسرحي البديع عبد اللطيف الظراب في كونه الإنعكاس الحقيقي للبساطة المتحللة من مساحيق الزيف ، ويكاد أن يكون التتويج المصحوب بالإنطباعات الجيدة والشغف الذي يتفجر من جنبات أعماله المسرحية وإبداعاته.

عبداللطيف الظراب لم يكن - ربما - حاضراً مشهد الموت الأخير
لكنه - كما يبدو - يعيش ذلك المشهد رفقة بلدٍ ، حولها الحوثيون والأعداء الفندقيون إلى منصةٍ لم تنجح - حتى اليوم - إلّا في إهدائنا المشاهد الأخيرة من موت لن يكون الأخير البتّة .

أحاول الفرار من أسئلة الشهيد صادق الشراعي وهو يسألني بحرقة : هل مسحت دموع التبيل جداً الأخ والصديق خالد عطا ، أثناء إلقاء نظرته الأخيرة على جسدي المهشم..؟ أم أنني عجزت كالعادة عن القيام بذلك..؟ برغم إدراكه لحقيقة خالد عطا ودموعه التي لم تكن غير صدىً لتعبير صادق ونزيه ، كان ينزفه قلبه المكلوم وروحه الممزقة ، إذ لا يمكن لمن عرف الناصري المتصوف خالد عطا ، أن يغادر ذلك التوصيف القائل بكونه الشاب الحكيم .

لم يخر الناصريون يا صادق الشراعي - رحمة الله تغشاك ووالدي وجميع الشهداء - ولم يستسلموا لقداسة الأوهام حفظ الله السوفعي  لم تزل قدمه البتّة ، وظل يقاوم الأيام السيئة ويركل برد يريم بدفء انتمائه وانحيازه للمبادئ والمواطنة وقيم الحرية ، وبقي عتياً أمام كل محاولات الإستقطاب الفاشلة ، متعاملاً مع الوضعيات المغلوطة بمعيار نضالي وكفاحي ، لا يكترث لتبعات موقفه وتمسكه بما آمن به من خيارات ومبادئ فاضلة .

هو في يريم مثل دبّ قطبي لم تصده شراك الواقع السيء ولم يطله الإنقراض .
أدرك ما ستقوله يا صديقي صادق سعيد مثنى اليتيم الذي وجد نفسه في مرمى الأوجاع ، و لم يلن لغوائل الأقدار ، فكان الناصري الأجدر بكل تقدير وود خالصين .

في مدينة القاعدة يشهر صادق مثنى تحديه في وجه كل ما يعترض مسلماته ، ولا يبالي في أن يدهسها بعجلات سيارته البيضاء إنتصاراً لثوابته ومسلماته التي لا تقبل التشكيك .

عادل الأسود يتذكرك جيداً، لكننا لم نعد نتذكره وبما يكفي للتخفيف من وجعه وألم فؤاده ( قلبه ) المعطوب.
هو متعب الآن 
لا نقود لدينا كي نمنحه القليل وبما يخفف عنه ثقل التكاليف وألم قلبه المفتوح على أكثر من خيار بائس وبائس .

لا أظن ذكرى رحيلك المفزع ستغادر ذاكرة الدكتور المهندس عبدالفتاح علوه ، وسيعلن الحداد في الصين وسيقيم مراسيم وداع لائق بذكرى رحيلك، تعرف عبدالفتاح علوه وتعرف ناصريته النزيهة وانحيازه للمشروع الإنساني الموغل في الحرية والمساواة..

أحد ناصريي اليهاري، القرية التي غادرت كقرى ومدن كثيرة هويتها ، لتجد نفسها اليوم وقد أضاعت الطريق ، رهينة تنبؤات الخلاص وكارثية الواقع المعاش .

بين عبدالفتاح علوه والدكتور علي علوه طالب الدكتوراة في مصر ، تبرز الكثير من المشتركات الجيدة ، ليكون فتاح علوة وعلي علوة نموذجين للمثابرة والجد والإجتهاد مع فارق بسيط بينهما ، يكاد الطبيب وطالب البورد علي علوة أن يتفرد به والذي ينحصر في كونه الناصري ( الملقوف ) و( طويل اللسان ) الذي يستخدمها كسوط أثناء ما يشرع في تشريح ضحيته الناصرية .

رحمك الله يا صادق الشراعي وجميع الشهداء
وسأحدثك عن عزت نعمان ومحمد سعيد ومنير اسماعيل ، ومعمر الغيثي وياسرالغيثي وابو شرعب العباسي وعبدالسلام قاسم ...... إلخ لكنني سأحاول الإتصال بمنزلك مستفسراً، هل تسلم أولادك سلة غذائية ومبلغاً مالياً ، منحها صاحب اليد الخيرة - بحسب تعبير مقدمة الذكرى - عبداللطيف المعلمي والتي - ربما - ستتحول إلى تقليد سنوي، لن يجد اللصوص حرجاً في منحكم الكثير من التحايا والإطراءات الكاذبة . 
لك ولرفاقك الشهداء الرحمة ولجميع الشهداء، ووالدي وجميع موتى المسلمين.

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24