الخميس 28 مارس 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
مروان الغفوري
الهاربون من الحرية.
الساعة 15:36
مروان الغفوري

واجه الشاب العبقري سبينوزا، الذي سيموت قبل أن يكمل عامه الأربعين، معضلة حادة مع الكنيسة وأمته المسيحية. في الأخير ‏توصل إلى استنتاج رياضي حاسم "نعم، لقد خلق الله العالم ولكننا نسيّره".‏ كانت الحروب الدينية قد أكلت وجه أوروبا. في مرّة طلب ملك فرنسا، وكان كاثوليكياً، أن تضرب على العملة صورة لبروتستانتيين يلقون حتفهم.‏

ينظر المؤرخون الأوروبيون حالياً إلى المنطقة العربية فيرددون عبر أكثر من منبر "إنها حرب الثلاثين عاماً بوجهها الشرق ‏أوسطي هذه المرّة". يوشكا فيشر، المثقف الألماني، قال إنه قد مضى على انطلاقها ‏سنوات كثيرة. يقصد منذ تفجير مرقد الإمام العسكري في العراق. ‏

كانت ألمانيا مسرحاً مركزياً لحرب الثلاثين عاماً "1618 ـ 1648". انفجرت الحرب الدينية، بكل أبعادها، وفجرت ‏أوروبا. انخفض سكان ألمانيا عدة ملايين مع نهاية الحرب. كان القتلى من كل الجهات يموتون لأجل الله. بحثت أوروبا وهي تقاتل نفسها عن كلمة السر، عن الخلاص. كان العقل الأوروبي يعمل، يجادل، وينتج، ويبتكر. بعد مائة عام ‏من انتهاء تلك الحرب ستحضّر فرنسا ذاتها للثورة، وكذلك أميركا. ثم ستدخل أوروبا عصراً جديداً، ستنتقل إلى الحداثة بالمعنى ‏السياسي والإبداعي وسيعلن نيتشه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر "مات الإله، وما تلك الكنائس سوى شواهد قبوره".

لكن الإنسان الذي أخذ مكان الإله سرعان ما سيصبح كولونيالياً متوحّشاً وسيكتشف العالم ‏محدِثاً حرائق بلا حصر من الجزر الأندونيسية حتى غرب القارة اللاتينية، في ألبيرو. استطاع جوزيف كونوراد مع نهاية القرن ‏التاسع عشر في "قلب الظلام" أن يدون ظلام الكولونيالية الأوروبية. بعد أكثر من نصف قرن على صدور رواية قلب الظلام ‏‏"تحديداً 58 عاماً" سيكتب الفرنسي ساتر "عارنا في الجزائر". لكن الحياة العلمانية التي منحت الإنسان حريته الشاملة سرعان ما ‏صححت ذاتها وعالجت عارها. فبعد أن غرقت أوروبا في حربين مدمرتين اكتشفت من جديد خطيئتها الكولونيالية فابتكرت ‏عصبة الأمم 1919، ثم مشروع الأمم المتحدة مع نهاية الحرب الثانية. ومنذ الحرب الثانية، منذ الألم الأكثر قسوة في تاريخ ‏البشرية، تغيّر شكل الحياة العلمانية كلّياً، ولم يعد العالم خارج أوروبا مستعمرات بل أمماً. وبصرف النظر عن سياسة الرجل ‏الأبيض خارج حدوده فقد استطاع بخياراته العلمانية ذات الطبيعة الديموقراطية أن يخلق توازنه الداخلي الشامل وسلامه المجيد.‏ نتج عن الحرب الكونية الثانية علمانية ديموقراطية في الغرب وأخرى ديكتاتورية في الشرق. ولم ينته القرن حتى كانت العلمانية الديكتاتورية، في نسختها الشيوعية، تتفكك.

من المفارقات المثيرة في التاريخ الأوروبي أن جامعة السوربون كانت في القرن الخامس عشر هي كلية السوربون اللاهوتية، ‏وكانت في حقيقتها اليد الخشنة للكنيسة. وعندما ابتكر أبو الأدب الفرنسي فرانسو رابليه أعماله "غارغانتوا وبانتاغرويل" فإن ‏السوربون هاجمتها ومنعت نشرها. كانت الكنيسة تحجب النور، وكان الإله يتجلّى بروحه المقدّسة لأناس بعينهم، ولم يكن قط ‏يشمئز من منظر الدم. وكان كل شيء يعمل في خدمة الكنيسة، بما في ذلك السوربون.‏

أصبح كل ذلك الخراب أثراً، أو تاريخاً غابراً. لقد وجدت أوروبا خلاصها وابتكرت الطريق الذي ينجو بها. فقبل وقت تساءلت إيفا ‏هوفمان، المحررة السابقة في النيويورك تايمز، عن ظاهرة "الهروب من الحريّة" التي تجلت لدى بعض الإرهابيين ‏الأوروبيين. وعمّا إذا كنت العلمانية التي منحت الإنسان الحق الكامل في أن "يعتقد، يفكر، يبتكر، يشعر، يعترض، ‏يسعى، يتملّك" دون أن يشعر بالخوف، كافية.

واقترحت إنه لا بد من صياغة حزمة من القيم الجديدة ‏لأن العلمانية على ذلك النحو تصبح بلا هويّة، الأمر الذي سيخلق الضجر والانفلات والوحشية. وفي نقاشها أحالت إلى فرويد في ‏ثلاثينات القرن الماضي، وتلميذه إيريك فروم وهما يتحدثان عن نوع من الكائن البشري يجد الحرية أمراً جارحاً وصعباً ومرهقاً، ‏لذلك يفرّ منها. بالنسبة لفرويد فهذا النوع من البشر غير مكتمل النضج، تحديداً لم تكتمل عناصر الاختيار الحرّ لديه، لذا يفضل ‏على الدوام أن يتحرر من أزمته ليصبح مملوكاً لفكرة أخرى كلية وأناس آخرين. فقد ظهر بعض الإرهابيين الأوروبيين وهم ‏يتحدثون عبر فيديوهات مصوّرة "تعالوا، جاهدوا معنا، الجهاد يعالج الاكتئاب". لقد سلموا أنفسهم كلّياً لفكرة قاسية وحاكمة، ‏واندمجوا معها حتى إنهم مزقوا جوزات سفرهم.‏

الحياة العلمانية الديموقراطية توفّر للكائن الفرصة الشاملة لأن يصبح كائناً كلي القدرة. تعطيه الحيّز الشامل، والحوافز الكاملة، ‏لأن يطلق قدراته كلّها. بما في ذلك أن يكون متديناً ورعاً. وهو أمر مختلف كلّياً عن الحياة ضمن ‏النسق الأرثوذوكسي، ضمن الصرامة الدينية، في إطار "الأخ الأكبر يراقبك". في الحالة الثانية ينمو بداخلك الرقيب، ثم تنتكس ‏ككائن لتصبح مع الأيام عضواً في جمهورية خوف يحدها الإله من كل جوانبها. تتجلى الفكرة على نحو حاسم عندما نتذكر ‏الجهادي الأردني الشهير وهو يندب أيامه السعيدة في إنغلترا بمزيد من الألم بعد أن يلقى به في سجون الأردن. قال أبو ‏حمزة "كنتُ حرّاً في بريطانيا، كنتُ حرّاً". كانت انغلترا تجري نقاشاً شاملاً ومستفيضاً في كل مرّة تفكّر باستجوابه، وهو ما افتقده في بلده الأم.
في "أخلاقيات الرأسمالية" تذكّر توم بالمر تلك الدراسة المثيرة التي أجريت على مصطلح "الرأسمالية" والتي توصلت إلى أن ‏المصطلح كان سيء السمعة على نحو لا يصدق في القرنين الثاني والثالث عشر.

وإن ذلك كان عائداً إلى المضامين ‏الأخلاقية والاجتماعية لكلمة الرأسمالية آنئذٍ. وفيما يبدو فإن الأمر يبدو، عربياً، شبيهاً بمصطلح الحياة العلمانية. فإذا كان ‏السلفيون والإخوان تعاملوا مع المصطلح بسطحية معتبرين العلمانية نظيراً للإمبريالية والحرب الصليبية، كما في ‏مورثهم الأدبي، فإن الأمر أخذ منحى أكثر تعقيداً مع عبد الوهاب المسيري، أحد أهم المفكّرين العرب في القرن الماضي. كان بن ‏باز يعتقد أن العلمانية تتمثل في الجينز ذلك أنه يفقد الفرد المسلم هويته ويماهيه بالآخر الكافر، طبقاً لبن باز. مر المسيري بالجينز كعلامة أيضاً وأخذ فكرة بن باز بعيداً. إذ بالنسبة للمسيري فالجينز مجرد حلقة في "متتالية بنيوية ‏للعلمانية". بين هاتين الفكرتين سقطت العلمانية في حقبة سوء السمعة. أما أكثر ملامحها سوءً فقد تمثل في الديكتاتورية العربية ‏التي أسسها نظام يوليو 1952، فقد خلقت تك الديكتاتوريات حياة علمانية متوحّشة بدلاً عن أن تطلق الكائن من خوفه فإنها ذهبت ‏تخلق جمهوريات خوف قوّضت الكائن كلّياً.

نهضت الحروب الدينية حالياً بكل وحشيتها. أصبح ‏لدينا عشرات الإسلامات، كل إسلام منها قاتل ومقتول. في هذه الأزمة المركبة يبدو الخروج من هذا الجنون عبر حياة علمانية ديموقراطية تميز الطريق بين الله والقيصر وتمنح الحق ‏الكامل في العيش للكائن في كل تمظهراته، على ‏أن تنزع منه الحق في أن يصدر أوامره الفوقية إلى أي مزيد من البشر. ‏

تلك الحياة الفائقة الجديدة التي يموت العرب والمسلمون في البحار والمحيطات بحثاً عنها باعتبارها حلم الأحلام، والاختيار المقدّس، ‏والخلاص الإلهي النبيل، هي الطريق. وهي، كما نعلم، صعبة المنال، وعصية لأن أصعب خصومها ليس عبد الملك الحوثي وربيع بن هادي المدخلي ‏وحسب، بل أولئك الذين تهدف تلك الحياة إلى تحريرهم. وهم الذين تحدث عنهم إيريك فروم وفرويد في ثلاثينات القرن المنصرم: الهاربون ‏من الحرّية.‏

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24