الخميس 02 مايو 2024 آخر تحديث: الأحد 11 فبراير 2024
مروان الغفوري
النبي المنصور بالرعب
الساعة 20:54
مروان الغفوري

تعللت السلطات الفرنسية بالقول إن "البوركيني"، زي السباحة المحافظ، يصيب الآخرين بالخوف، وأن قرار منعه يعود إلى المسألة الأمنية إجمالاً. إلى أي مدى يمكننا القول إن السلطات الفرنسية قرعت الجرس الصحيح؟

يحيل ناشطو التنظيمات الجهادية إلى القول: "نصرت بالرعب من مسيرة شهر"، وهو حديث شهير اتفق عليه البخاري ومسلم. تعتمد الفكرة الجهادية، كما رصدها الصحفي الألماني تودينهوفر في "داخل تنظيم الدولة الإسلامية"، على القتل البشع لتحقق الرعب عن بعد، واجدةً في هذا النص الشهير زاودتها.
 
نجحت الجماعات الجهادية، والخطاب الجهادي، في تأكيد الرعب "العالمي" مع مرور الوقت. مع توالي العمليات الجهادية، التي تحيل إلى الإسلام ونبيه باستمرار، تحولت حالة الرعب إلى استجابة عفوية.
 
لم يعد ضرورياً أن يبصر العالم حالة قتل مجانية بشعة حتى تعتريه الرجفة، ولا أن تتناسل الحركات الجهادية على طريقة فروع الماكدونالدز، كما تنبه ضياء رشوان قبل ستة أعوام. فقد صارت الرموز والعلامات اليومية، ذات المعنى الإسلامي، تكفي. إنها تحيل إليهم وإلى مرجعياتهم، هكذا يعتقد الآخر في تصوره اليومي الفوري.
 
 تكدس الشعور بالرعب مستحيلاً إلى حالة عامة من الإسلاموفوبيا. يذهب ديفيد كينينغ، وهو خبير بريطاني في شؤون الإرهاب، إلى الاعتقاد بأن الإسلاموفوبيا تعزز الشعور بالمجتمع الجريح، على المستوى الأوروبي، ومن شأن ذلك أن يعزز الميل إلى العنف والانتقام.
 
الاستجابات الشعبوية الاستقطابية، بحسب أغناشيوش في واشنطون بوست، تعبر عن نفسها من خلالها خطاب راديكالي عنيف، واختيارات سياسية يمينية.
 
تؤدي هذه الحالة السائلة إلى صورة أخرى من الرعب لدى الطرف الآخر، الجالية المسلمة في الغرب، والمجتمع المسلم في العالم. صورة الرعب، التي تتغياها الجماعات الجهادية، انشطرت إلى اثنتين: واحدة تغطي المجتمع المسيحي وأخرى تشمل المجتمع الإسلامي. لكن الإسلام، البريء الواقف على الخط، نال الخسارة كلها.
 
 من الجيد أن نعود إلى مولد التيار، إلى حديث الرعب، وهو حديث أكدت الواقعة التاريخية قيمته الإجمالية. ثمة مرويات متوازية تتحدث عن الإمبراطوريات التي قتلت رسل النبي، أو استقبلتهم ومنعتهم من الحديث إلى الناس.
 
فخطاب التحرير، خطاب الحرية والعدالة، الذي ساقه النبي من الصحراء وعرضه على الأمم الأكثر تحضراً كان خطاباً خطِرَاً بالنسبة لأنظمة سياسية تواطأت على مر السنين على وضع قائم، على ترتيب نهائي للسياسة والاجتماع. النص المُشار إليه يستهل ب"فضلت على الأنبياء بست..". جاءت فكرة الرعب داخل النص متآخية مع  تعبير "وعالمية دعوتي".
 
خاض النبي صراعاً مراً ، في مجتمعه العربي أولاً، ضد الطبقيات والتشكيلات الاجتماعية المستغلة، كما مع العقائد التي تعزز الظلم والاستبعاد الاجتماعي. بعد سنين طويلة نجحت الجماعة الثورية التي اجتمعت حول النبي في الإطاحة بكل ذلك النظام، كما برموزه الدينية غير الإنسانية، واستطاع هو أخيراً أن يخلق حالة من المساواة دفعته إلى أن ينهر رجلاً قال لغلامه يا ابن السوداء، واسماً المتعالي بالقول: إنك امرؤ فيك جاهلية. 
 
يؤكد البخاري أن "المعرور بن سويد"، أحد رجال النبي، شاهد أبا ذر الغفاري ماشياً إلى جوار غلامه وعليهما بردتان غاليتا الثمن، فقد تعلم درساً كبيراً بلغ حد الرعب.
 
عالمية مشروع الحرية العام، طبقاً لتعريف بيغوفيتش للاسلام، هي الرعب الذي كان يسبق النبي محمداً. فالحرية والشرف، فكرتان ذاتا جاذبية أبدية، وهما تحركان التاريخ. المجتمعات المنقسمة إلى طبقات، إلى سادة وعبيد، تحوي في داخلها عناصر صراع كامنة، ويبدو استقرارها هشاً، وليس أخطر على نظامها السياسي من دعوة عامة، ذات جاذبية وتملك نموذجاً واقعياً، من دعوة إلى التحرير واستعادة الشرف.
 
ثمة نقاش تاريخي مستفيض حول هذه المسألة، بدأه أفلاطون في ثلاثيته "العقل والإيروس والاعتراف" بوصفهما المحددات الأبرز للذات/ النفس. فالاعتراف Thymos، أو الثايموس، مسألة تخص الشرف الشخصي، التحرير الشخصي الشامل، وهي ما يحرك التاريخ. إنها الدافع الشخصي الأكثر أصالة وعمقاً، وهي الدالة النفسية غير المستقرة، صانعة الإبداع والجريمة والاستشهاد معاً. وما لم ينل الإنسان اعترافاً فإن التاريخ سيتحرك من خلال الصراع.
 
فالبشري يركض خلف الثايموس حتى الحدود الرامبوية، حد سماعه لآرثر رامبو وهو يهتف: لم أهب نفسي لأحد، لا لإله ولا لإنسان. نعتقد أن رسالة النبي محمد كانت تهدف إلى إطلاق الكائن، كل الكائن، من إساره وتحرير طاقاته، وإعادته إلى الطبيعة. ذلك كان تهديداً غير اعتيادي للبنى الاجتماعية والسياسية المهيمنة، كان رعباً.  
 
 انطوت رسالة النبي محمد، إذن، على خطورة بنيوية، فهي تهديد صريح وغامض في آن، تهديد لاستقرار النظام السياسي في كل العصور. وقد لمح هو بذكاء محض تلك الخطورة فأخبر أصحابه أن رسالتهم منصورة بالرعب من مسيرة شهر، ما دامت محتفظة بجورها وبنموذجها العملي المتسق مع النظرية. مصدر الرعب هو الترحيب الجماهيري بدعوة التحرير تلك، ذلك الترحيب المناهض، كلياً، لموقف النظام السياسي.
 
بهذه القسمة التاريخية أدار النبي محمد معاركه السياسية، ومعاركه العسكرية القليلة. ثمة دراسة تاريخية، استعرضها محمد عمارة في "السماحة الإسلامية"، كشفت عن أن إجمالي قتلى معارك النبي لم يتجاوز 380 فرداً، منهم حوالي 100 من رجال النبي.
 
جاذبية رسالة التحرير، التي عرضها النبي محمد على مجتمعه العربي، أدت إلى انهيار واسع في نظام السلطات والتواطؤات، ولم تكن الحرب سوى محاولات هامشية، كسبها النبي قبل وقوعها. لقد وقعت حروبه في الهامش، وبقي متن حياته طريقاً طويلاً إلى التحرير. ما حدث بعد وفاته مسألة مختلفة، كذلك هي النسخ اللانهائية من الإسلامات المحاربة على مر التاريخ.  
 
في أبريل من هذا العام نشر المعهد الفرنسي لاستطلاع الرأي IFOP نتائج استطلاعه حول الصورة الشعبية للإسلام لدى المجتمعين الفرنسي والألماني. قال 47% من الفرنسيين، و 43% من الألمان أن وجود جماعة من المسلمين، في أي مجتمع، يشكل تهديداً. بالنسبة للمعلومات التي نشرها الاستطلاع فإن صورة الإسلام آخذة في السوء، وقد لاحظت الدراسة تدهوراً ملحوظاً في نتائج 2016 مقارنة بالدراسة التي أجراها المعهد في العام 2010.
 
 الجاذبية الأخلاقية التاريخية التي حرست الإسلام، وثبتت أقدامه، خسرها. لم تكن سكاكين تنظيم الدولة، ولا مدفعية الحوثي، ولا أحزمة تنظيم القاعدة سوى واحدة من الأسباب. ساعدت التكنولوجيا الحديثة على التعرف على صور رعب منخفضة، أقل حدة من سكاكين تنظيم الدولة، لكنها قادرة على تبديد السمعة التاريخية للاسلام، الاسلام ذلك الدين الجمهوري، بتعبير بيغوفيتش.
 
الخطاب السلفي الاختزالي، خطاب الخضوع للسلطان وللتفسيرات الأحادية للدين، خطاب اقتحام الحياة الخاصة ومصادرتها، تناقض كلياً مع الفكرة الجوهرية التي ساقها النبي محمد للعالم. فلا تنطوي دعوة الخضوع الشامل، كما هو سائد في بعض المجتمعات الإسلامية المغلقة، على أي أغراء من أي نوع. كما إنها دعوة تفتقر إلى أهم ملمح للإسلام: العالمية.
 
فالسلفية والحوثيانية تقدمان صورتين عن الإسلام تنتميان إلى ديانات العصور الوسطى، غير قادرتين على اختراق المجتمع الحديث، ولا الاندماج معه. فقد شاهد 71% من المجتمع الألماني، و68% من المجتمع الفرنسي عجزاً واضحاً عن الاندماج مع الحياة العامة لدى الأقليات الإسلامية في البلدين، بحسب IFOP.
 
ثمة سواتر تتأسس على نحو يومي بين المجتمع الإسلامي والعالم الحديث، أو/و بين الاسلام والعالم الحديث. تلك السواتر تكشفها، باستمرار، استطلاعات الرأي. فالرعب الذي نصر النبي محمداً في فجر التاريخ كان منشأه في قيمه الأخلاقية والسياسية ذات الطبيعة العالمية، حول العدالة والحرية والمساواة، وكان حالة نفسية وعسكرية تخص الأنظمة لا الشعوب. فقد كانت الشعوب تخرج إلى لقاء الاسلام على تخوم المدن. تراجعت تلك القيم الأصيلة إلى الصفوف الخلفية وبرز نموذج آخر للرعب لا علاقة له بالطبيعة النهرية للاسلام.
 
 إذا كان من المناسب أن نضع شكلاً مجسماً لحالة الاسلام الراهنة فليكن هذا: يعتقد الشيخ الألباني، محقق الأحاديث الأشهر عالمياً، أن حديث خروج مواطني مدينة يثرب لاستقبال النبي محمد بالأناشيد هو حديث "غير ثابت". لكنه يؤكد من أكثر من وجه أن حديث "اسمعوا يا معشر قريش، لقد جئتكم بالذبح" هو حديث صحيح، ولا نقاش حول صحته.

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحافة 24